Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 47-48)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أخبر عن الإيمان الحقيقي والاحتراز عن الشرك الجلي بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ } [ النساء : 47 ] ، إشارة في الآيتين : { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ } [ النساء : 47 ] ، ظاهراً ولم يؤتوا علم باطن الكتاب ، فإن للقرآن ظهراً وبطناً ، { ءَامِنُواْ } [ النساء : 47 ] ، وصدقوا { بِمَا نَزَّلْنَا } [ النساء : 47 ] على الأولياء من علم باطن القرآن وفهمه ، { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } [ النساء : 47 ] من العلم الظاهر ، فإن آتيناهم { رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } [ الكهف : 65 ] ، ولا تستبعدوا أن يؤتي الأولياء علماً ، علماء الدنيا يحتاجون إليهم في إرشادهم إلى ذلك العلم إياكم ، فإن موسى عليه السلام مع رسالته ، فإنه كان كليم الله احتاج إلى تعلم الخضر - عليهما السلام - حتى قال : { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } [ الكهف : 66 ] ، ومع هذا قال له الخضر : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } [ الكهف : 67 ] ؛ لأن أهل العلم الظاهر كما معهم من الكتاب وعلمهم يكون مصدقاً لما معهم ، ولكن أهل العلم الظاهر يصعب عليهم تصديق علوم الأولياء ، وقليل منهم يستطيعون الصبر مع أقوالهم وأفعالهم ؛ لأنها قلما تناسب عقولهم ، فالواجب على أهل علم ظاهر القرآن تصديق أهل علوم باطنه والاستفادة منهم ، والصبر على تصرفاتهم فيهم والتسليم لأحكامهم في البرية ، وتزكية نفوسهم وصدق الإرادة في حمل أعباء الصحبة ؛ لئلا يكون علومهم الظاهرة الغريبة من فوائد العلوم الباطنة وبال عليهم ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " كل علم بلا عمل وبال ، وكل عمل بلا علم ضلال " . فمن فوائد العلوم الباطنة معرفة العلم بالأعمال المنجيات والأعمال المهلكات ، ومعونة العمل بالعلوم المنجيات والعلوم المهلكات ، وقوة حمل النفس على العمل بالمنجيات ، وقوة منعها عن العمل بالمهلكات بالصدق والإخلاص ، فالعمل والعلم إذا كانا عاريين عن هذه المعارف والقوة والإخلاص - بجلبان حب الدنيا ورياستها وشهواتها ولذاتها إلى القلب فتعميه وتصمه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " حبك الشيء يعمي ويصم " ، وكذلك قال الله تعالى : { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } [ النساء : 47 ] ؛ أي : وجوه القلب ، وطمسها عماه وصمها يدل عليه قوله تعالى : { فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ } [ محمد : 23 ] ، وقال : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] ، { فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ } [ النساء : 47 ] ؛ أي : فيرد وجوههم الناظرة إلى الله عما كانوا عليه في الميثاق على أدبارها ؛ وهي الدنيا والهوى ، { أَوْ نَلْعَنَهُمْ } [ النساء : 47 ] ؛ أي : نبعدهم عن الحضرة ونطردهم ، ونمسح صفاتهم الإنسانية بالسبعية والشيطانية ، { كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَٰبَ ٱلسَّبْتِ } [ النساء : 47 ] ؛ أي : مسخناهم بالصورة ونمسخ هؤلاء بالمعنى ، ومسخ المعنى أشد وأصعب من مسخ الصورة ، فإن أعمى الصورة يمكن أن يكون في الآخرة بصيراً ، ولكن من كان في هذا أعمى بالقلب { فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً } [ الإسراء : 72 ] ، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة ، { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ } [ النساء : 47 ] ؛ أي : حكمه وقضاؤه في الأزل { مَفْعُولاً } [ النساء : 47 ] ، لا محيض عنه لوقوع الفعل في الأبد نظيره ، { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً } [ الأحزاب : 38 ] ، ولما لم يكن حجاب أعظم من الأنانية فإنها الشرك الخفي ، قال الله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] ، واعلم أن للشرك مراتب وللمغفرة مراتب ، فمراتب الشرك ثلاث : الجلي والخفي والأخفى ، وكذلك مراتب المغفرة ، فالشرك الجلي : بالأعيان وهو للعوام ، وذلك تعبد شيء من دون الله : كالأصنام والكواكب وغيرها ، فلا يغفر إلا بالتوحيد وهو إظهار العبودية في إثبات الربوبية مصدقاً بالسر والعلانية ، والشرك الخفي : بالأوصاف وهو الخواص ، وذلك ثبوت العبودية بالالتفات إلى غير الربوبية ، وإلى العبادة : كالدنيا والهوى ، وما سوى المولى فلا يغفر إلا بالوحدانية ، وهي أفراد التوحيد ليتصل بالواحد ، والشرك الأخفى : وهو للأخص ، وذلك رؤية الأغيار والأنانية ، فلا يغفر إلا بالواحدانية وهي فناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية ليبقى بالهوية دون الأنانية ، { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ } [ النساء : 48 ] ، بمراتب المغفرة { أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 ] ، بمراتب الشرك ، { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ } [ النساء : 48 ] ، بمراتب الشرك { فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً } [ النساء : 48 ] ؛ أي : جعل بينه وبين الله حجاباً من إثبات وجود الأشياء والأنانية وهي أعظم الحجب ، كما قيل : وجودك ذنب لا يقاس به ذنب .