Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 49-52)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أخبر عمن زكى نفسه ونسي أمه بقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } [ النساء : 49 ] ، إشارة في الآيتين : إن الذين يزكون أنفسهم من أهل العلوم الظاهرة بالعلم ، ويباهون به العلماء ويمارون به السفهاء لا تتزكى أنفسهم بمجرد تعلم العلم ؛ بل يحصل لهم ذلك صفات أخرى من المذمومات مثل : المباهاة والمماراة ، والمجادلة والمفاخرة ، والعجب والكبر ، والحسد والرياء ، وحب الجاه والرياسة ، وطلب الاستيلاء والغلبة على الأقران وإيذائهم وأمثال ذلك ، فينقم هذه المذمات مع سائر الصفات النفسانية ، وتزيد في أمارية النفس بالسوء ، وتمردها عن الحق ، { بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } [ النساء : 49 ] ، لا بتزكية ، وتهيأ لها بتسليم النفس إلى أرباب التزكية وهم العلماء الراسخون والمشايخ المحققون ، كما يسلم الجلد إلى الدباغ ليجعله أديماً ، فمن سلم نفسه للتزكية ويصبر على تصرفاته ويسعى إلى إشاراته ولا يتعرض على معاملاته ويقاسي شدائد أعمال التزكية فقد أفلح بما تزكى ، { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ النساء : 49 ] ؛ يعني : ولا يضيقون ما عملوا في التزكية بمقدار القيل ، بل يرون آثره في تزكية نفوسهم ، يدل عليه قوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 - 8 ] . { ٱنظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلكَذِبَ } [ النساء : 50 ] ، في ادعاء تزكية أنفسهم بمجرد تحصيل العلم ، وما سلكوا طريق الله في تزكية النفس بتسليمها إلى مزكيها وهي النبي صلى الله عليه وسلم في أيام حياته ، كما قال تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } [ الجمعة : 2 ] ، وبعده هم العلماء الذين أخذوا التزكية ممن أخذوا منه قرناً بعد قرن من الصحابة والذين اتبعوهم بإحسان إلى يومنا ، ولعمري أنهم في هذا الزمان أعز من الكبريت الأحمر ، { وَكَفَىٰ بِهِ } [ النساء : 50 ] ، بإدعاء التزكية لنفسه أو تعليم التزكية لغيره { إِثْماً } [ النساء : 50 ] ، للمدعين باطلاً في هذا المعنى { مُّبِيناً } [ النساء : 50 ] ، ظاهر الكذب دعواهم على أعمالهم وأحوالهم . ثم أخبر عن إمارات كذبهم في دعويهم وعلاماته بقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّٰغُوتِ } [ النساء : 51 ] ، إشارات في الآيات : إن من أوتي نصيباً من العلوم الظاهرة ولم يؤت نصيباً من العلوم الباطنة ، لا بد وأن يؤمن بجبت النفس الأمارة بالسوء طاغوت الهوى ، فيصدقها فيما يأمرانه وينهيانه بالإعراض عن الحق وطلبه والإقبال على الدنيا وزخارفها ، وبهذا يخرجانه من نور الهداية إلى ظلمات الضلالة ، يدل عليه قوله تعالى : { أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ } [ البقرة : 257 ] ، وقال تعالى : { أَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [ الفرقان : 43 ] وأضله الله على علم ، وقال تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ ص : 26 ] ، وهذا كما كان إبليس ، فإنه أول نوعاً من العلوم الظاهرة حتى استكبر بها وقال : { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ ص : 76 ] ، فلما لم يكن أدنى شيئاً من العلوم الباطنة بالنسبة إليه ليغرس في آدم عليه السلام بشرف علم الأسماء واختصاصه ، { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ] ، وليفهم من قوله تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] ، كمالية مرتبة الخلافة كان حاصله من مجرد علمه الظاهر الإباء والاستكبار والكفر واللعن والطرد ، والإغراء والإضلال ، ومن أضلاء المحرومين من دولة علم الباطن المغرورين بعلم الظاهر قال الله تعالى : { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ النساء : 51 ] ، من أهل الأهواء والمبتدعة والمتفلسفة ومن يعبد الهوى والدنيا ، المناسبة فيما بينهم من عبادة الهوى والدنيا { هَٰؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ النساء : 51 ] ، صدقوا الرسل فيما أمروهم بالإقبال على الله والإعراض عن الدنيا وأهلها ، { سَبِيلاً } [ النساء : 51 ] ، طريق الحق ؛ لأنهم لا يعرفون الباطل من الحق واتخذوا الحق باطلاً والباطل حقّاً . ثم أخبر عن سبب خذلان من يظهر على أعماله هذه الإمارات ويوجد من أحواله هذه العلامات بقوله تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ } [ النساء : 52 ] ؛ يعني : هم الذين لم يؤمنوا بما نزلنا على الأولياء من العلوم اللدنية الذين أودعناهم الطمس واللعن بقوله تعالى : { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ } [ النساء : 47 ] ، فلما أصروا على الجحود والإنكار والإباء والاستكبار أدركتهم اللعنة والطمس وشوهت صورتهم ، كما أدركت إبليس وشوهت صورته ، فظهرت منهم هذه الأفعال والأحوال { وَمَن يَلْعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً } [ النساء : 52 ] ؛ يعني : من أصابته لعنة الله أبطلت استعداده وقبول الحق فيبقى في إنكاره وجحوده ، فلم تجد له نصيراً من الأنبياء والأولياء ليعادله ويخرجه من هذه الظلمات .