Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 94-96)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم أخبر عمن يسلم إذا ألقى السلم بقوله تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ النساء : 94 ] ، والإشارة فيها إلى البالغين الواصلين بالسير إلى الله تعالى ؛ أي : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ النساء : 94 ] ، وما قنعوا على مجرد الإيمان بالغيب ، { إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ النساء : 94 ] ؛ يعني : بل سرتم بقدم السلوك في طلب الحق ، حتى صار الإيمان إيقاناً ، والإيقان إحساناً ، والإحسان عياناً ، والعيان غيباً ، وصار الغيب شهادة ، والشهادة شهوداً ، والشهود شاهداً ، والشاهد مشهوداً ، وبهما اقسم الله تعالى بقوله { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } [ البروج : 3 ] ، فافهم جيداً ، وهذا مقام الشيخوخة { فَتَبَيَّنُواْ } [ النساء : 94 ] عن حال المريدين وتثبتوا في الرد والقبول ، وفي قوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىۤ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً } [ النساء : 94 ] ، وألقي إليكم السلام بالانقياد والاستسلام ، فلا تقولوا : ألست مؤمناً ؟ أي : صادقاً مصدقاً في التسليم لأحكام الصحبة ، وقبول التصرف في المال والنفس بشرط الطريقة ، ولا تردوه ولا تنفروه بمثل هذه الشدائد ، وقوله كما أمر الله موسى وهارون عليهما السلام { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } [ طه : 44 ] ، فما أنتم أعز من الأنبياء ، ولا المريد المبتدئ أذل من فرعون ، ولا يهونكم أمر رزقه فتجتنبون منه للتخفيف ، وإلى هذا المعنى أشار بقوله تعالى : { تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا } [ النساء : 94 ] ، فلا تهتموا لأجل الرزق { فَعِنْدَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } [ النساء : 94 ] ، { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] ، { كَذٰلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ } [ النساء : 94 ] ؛ أي : كذلك كنتم ضعفاء بالصدق والمطلب محتاجين إلى الصحبة والتربية والإرادة من قبل ، { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } [ النساء : 94 ] بصحبة المشايخ وقبولهم إياكم والإقبال على تربيتكم وإيصال رزقكم إليهم وشفقتهم وعطفهم عليكم ، { فَتَبَيَّنُواْ } [ النساء : 94 ] ، أن تردوا صادقاً اهتماماً لرزقه ، وتقبلوا كاذباً حرصاً على كثير المريدين ، { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ } [ النساء : 94 ] في الأزل ، { بِمَا تَعْمَلُونَ } [ النساء : 94 ] اليوم من الرد والقبول والاحتياج إلى الرزق تهتمون له ، { خَبِيراً } [ النساء : 94 ] ، فدبر الأمور وقدرها في الأزل وفرغ منها ، كما قال : صلى الله عليه وسلم " إن الله تعالى فرغ من الخلق والخلق والرزق والأجل " . وقال صلى الله عليه وسلم : " الضيف إذا نزل ، نزل برزقه ، وإذا ارتحل ، ارتحل بذنوب مضيفه " . ثم أخبر عن فضل المؤمن المجاهد على المؤمن القاعد بقوله تعالى : { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ النساء : 95 ] إلى قوله : { غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 96 ] . والإشارة فيها : ألاَّ يستوي القاعدون عن طلب الحق ، وإن كانوا أولي العذر من المؤمنين العالمين المتقين ، { وَٱلْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ النساء : 95 ] في طلب الحق القائمون في أداء حقوق الطلب ، { بِأَمْوَٰلِهِمْ } [ النساء : 95 ] ؛ أي : بترك الدنيا { وَأَنْفُسِهِمْ } [ النساء : 95 ] ؛ أي : ببذل الوجود في طلب المعبود ، { غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ } [ النساء : 95 ] ، غير بالرفع صفة المجاهدين ؛ يعني : في الله حق جهاده ولا يرون ضرر الجهاد وضرراً على أنفسهم من بذل المال والأنفس ، يدل عليه قوله تعالى : { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } [ النساء : 65 ] ، ثم قال تعالى : { فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } [ النساء : 95 ] ؛ يعني : فضلهم بفضيلة الولاية ، والتوفيق لبذل المال والنفس على القاعدين يدل عليه قوله تعالى : { وَقِيلَ ٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْقَاعِدِينَ } [ التوبة : 46 ] ، وذلك القيل ما كان من طريق القوم الخذلاء لما خذلهم الله تعالى ولم يوفقهم للقيام ، كما قيل لهم : { ٱقْعُدُواْ } [ التوبة : 46 ] ، وقوله تعالى : { عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً } [ النساء : 95 ] ؛ يعني : للمجاهدين فضيلة درجة الولاية على القاعدين ، ثم عمم القول في المجاهد والقاعد بلا عذر ، فقال تعالى : { وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } [ النساء : 95 ] ؛ يعني : الجنة فيما بين الواصلين البالغين والطالبين المنقطعين بعذر ، وعوام المؤمنين القاعدين عند الطلب بلا عذر ، ثم خص المجاهدين بالانفراد في نيل الدرجات والوصول إلى القربات ، فقال تعالى : { وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ } [ النساء : 95 ] بعد الطالبين والواصلين مطلقاً ، { عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ } [ النساء : 95 ] ؛ يعني : المنقطعين بعذر أو بغير عذر مطلقاً ، { أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 95 ] ، وعظم الأجر على قدر مراتب الطالبين والواصلين ، وخصهم بدرجات منه لا من غيره ، فقال تعالى : { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ } [ النساء : 96 ] ؛ أي : قربات منه ، { وَمَغْفِرَةً } [ النساء : 96 ] منه لبعضهم ؛ وهو أن يتجلى بصفة الغفران لهم فيكونوا مستورين بصفاته لا منتفيِّن بصفاته عن صفاتهم ، لا فانين عن ذواتهم بذاته . { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 96 ] ؛ يعني : يكون الله تعالى بذاته غفوراً ، والغفور للمبالغة ؛ يعني : كثير الغفران لبعضهم حتى يغنيهم عن ذواتهم ويبعثهم برحمة ذاته تعالى وتقدس ، فافهم واغتنم هذا الجهاد الأكبر .