Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 49, Ayat: 9-13)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أخبر عن أحوال أهل القتال بقوله : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } [ الحجرات : 9 ] ، يشير إلى أن المؤمن لا يخرج بالفسق عن الإيمان ؛ لأن إحدى الطائفتين لا محالة فاسق إذا اقتتلتا وسماهما مؤمنين . ويشير أيضاً إلى : أن الإصلاح بين المسلمين إذا تفاسدوا من أعظم الطلبات ، وأتم القربات . ويشير أيضاً إلى : وجود نصرة المظلوم ؛ حيث قال : { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ } [ الحجرات : 9 ] . ويشير أيضاً إلى : أن النفس إذا أظلمت على القلب باستيفاء شهواتها واستعلائها في فسادها ، يجب أن يقاتل حتى تثخن بالجراحة بسيوف المجاهدة ، فإن استجابت بالطاعة فيعفي عنها ؛ لأنها هي المطية إلى باب الله ، { وَأَقْسِطُوۤاْ } [ الحجرات : 9 ] بين القلب والنفس ؛ لئلا يظلم القلب على النفس ، كما لا تظلم النفس على القلب ؛ لأن لنفسك عليك حقاً ، { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } [ الحجرات : 9 ] ؛ أي : يؤدون إلى كل ذي حق حقه . { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } [ الحجرات : 10 ] ، اعلم أن أخوة النسب إنما تثبت إذا كان منشأ النطف صلباً واحداً ، فكذلك أخوة الدين منشأ نطفها صلب النبوة ، وحقيقة نطفها نور الله فإصلاح ذات بينهم يرفع حجب أستار البشرية عن وجود القلوب ؛ ليتصل النور بالنور من روزنة القلب ؛ ليصيروا كنفس واحدة ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " المؤمنون كنفس واحدة إذا اشتكى عضو واحد تداعى سائر الجسد بالحمى والسهر " ، فأما شرط الأخوة فمن حق الأخوة في الدين أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك ، وسترك ما ستره ، وألاَّ يحوجه إلى الاستعانة بك والاستعانة تعيده ، وتنصره ظالماً ومظلوماً ، فمنعك إياه عن الظلم فذلك نصرك إياه ، وألا تقصر في تفقد أحواله ؛ بحيث يشكل عليك موضع حاجته ، فيحتاج إلى مسألتك ، ومن حقه ألاَّ تلجئه إلى الاعتذار بل تبسط عذره ، فإن أشكل عليك وجهه عدت باللائمة على نفسك في خفاء عذره ، وتتوب عنه إذا أذنب وتعوده إذا مرض ، وإذا أشار إليك بشيء فلا تطالبه بالدليل وإيراد الحجة ، كما قالوا : @ لا يَسأَلونَ أَخاهُم حينَ يَندُبُهُم في النائِباتِ عَلى ما قالَ بُرهانا إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهمو لأيّة حرب أم لأي مكانا @@ { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } [ الحجرات : 10 ] في إخوتكم في الدين ، بحفظ عهودهم ورعاية حقوقهم في المشهد والمغيب والحياة والممات ، { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الحجرات : 10 ] ، كما ترحمون . ثم أخبر عن قوم يسخرون بمن يسخرون بقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ } [ الحجرات : 11 ] ، يشير إلى أنه لا عبرة بظاهر الخلق ، فلا ينظرون إلى أحد بنظر الازدراء والاستهانة والاستخفاف والاستحقار ؛ ولأن في استحقار أخيك عجب نفسك مودع ، كما نظر إبليس بنظر الحقارة إلى آدم عليه السلام ، فأعجب بنفسه فقال : { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] ، فلعن إلى الأبد لهذا المعنى فمن حقر أخاه المسلم ، أو ظن أنه خير منه يكون إبليس وفيُّه ، وفيه إشارة إلى أهل المحبة وأرباب السلوك ، فإنهم مخصوصون بهذا الاسم ، كما قال تعالى : { فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ؛ يعني : لا ينظر المنتهى من أرباب الطلب بنظر الحقارة إلى المبتدئ والمتوسط ، { عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ } ، فإن الأمور بخواتيمها ؛ ولهذا قال : " أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " ربَّ أشعت أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره " ، وبالنساء يشير إلى عوام المسلمين ؛ لأنه تعالى يعبره عن الخواص بالرجال لقوله تعالى : { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } [ النور : 37 ] . { ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ } [ الحجرات : 12 ] ، { وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } [ الحجرات : 11 ] إلى هذا المعنى يشير . ثم يقول : كان للملائكة شركة مع إبليس في قولهم لآدم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ … } [ البقرة : 30 ] ، كان في نظرهم إليه بالحقارة إعجاب أنفسهم مودعاً ، ولكن الملائكة لم يصروا على ذلك الإعجاب ، وتابوا إلى الله ورجعوا مما قالوا ، فعالجهم الله بإسجادهم لآدم عليه السلام ؛ لأن في السجود غاية الهوان والذلة للساجد ، وغاية العظمة والعزة للمسجود ، فلما كان في تحقير آدم هوانه وذله وعزة الملائكة وعظمتهم فأمرهم بالسجود ؛ لأن العلاج بأضدادها فزال عنهم علة العجب ، وقد أصر إبليس على قوله وفعله ، ولم يتب فأهلكه الله بالطرد واللعنة ، فكذلك حال من ينظر إلى أخيه المسلم بنظر الحقارة ، ولا ينتهي عما نهاه الله تعالى بقوله : { وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [ الحجرات : 11 ] ، وإنما قال : { أَنفُسَكُمْ } ؛ لأن المؤمنين أنفسهم واحدة إن عملوا شراً إلى أحد ؛ فقد عملوا إلى أنفسهم ، كما قال تعالى : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ … } [ الإسراء : 7 ] الآية . { وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ } [ الحجرات : 11 ] ؛ أي : بألقاب فيها شين لدينهم ، { بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ } [ الحجرات : 11 ] ؛ أي : اسم يخرجهم من الإيمان ، { وَمَن لَّمْ يَتُبْ } [ الحجرات : 11 ] ؛ يعني : من مقالة إبليس وفعاله بأن ينظر إلى نفسه بالعجب وإلى غيره بالحقارة ، { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } [ الحجرات : 11 ] ، فيكونوا منخرطين في سلك اللعنة والطرد مع إبليس ، كما قال : { أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } [ هود : 18 ] . ثم أخبر عن الاجتناب عن قومه من الظن بقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ } [ الحجرات : 12 ] ، وتمامها { إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } [ الحجرات : 12 ] . قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ } [ الحجرات : 13 ] ، يشير إلى خلق القلوب إنها خلقت من : ذكر وهو الروح ، وأنثى وهي النفس ، { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ } [ الحجرات : 13 ] ؛ أي : جعلناها صنفين : صنف منها شعوباً وهي التي تميل إلى أمها ، وهي النفس والغالب عليهما صفات النفس ، وصنف منها قبائل وهي التي تميل إلى أبيها ، وهو الروح والغالب عليها صفات الروح ؛ { لِتَعَارَفُوۤاْ } [ الحجرات : 13 ] أصحاب القلوب وأرباب النفوس ، لا ليتكاثروا ويتنافسوا ويتشابهوا بالعقول والأخلاق الروحانية الطبيعية ، فإنها ظلمانية لا يصلح شيء منها للتفاخر به ما لم يقرن به الإيمان والتقوى ، فإن تنورت الأفعال والأخلاق والأحوال بنور الإيمان والتقوى ، ولم تكن الأفعال منسوبة بالرياء ، ولا الأخلاق مصحوبة بالأهواء ، ولا الأحوال منسوبة إلى الإعجاب ؛ فعند ذلك تصلح للتفاخر والمباهات بها ، كما قال تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [ الحجرات : 13 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " الكرم التقوى " ، وأتقاهم من يكون أبعدهم من الأخلاق الإنسانية وأقربهم إلى الأخلاق الربانية والتقوى التحرز ، والمتقي من يتحرز عن نفسه بربه ، وهو الذي أكرم على الله من غيره .