Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 125-129)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم أخبر عن أهل الهداية والضلالة بقوله تعالى : { فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَٰمِ } [ الأنعام : 125 ] ، إلى قوله : { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 127 ] ، الإشارة فيها : إن انشراح الصدر لمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام إنما يكون من وقع النور في القلب ؛ وذلك لأن الله تعالى إذا أراد أن يهدي عبداً إلى حضرة جلاله ينظر إلى قلبه بنظر العناية ؛ فينوره بنور جماله لينظر ببصيرة القلب من رؤية السر ؛ فيهديه نور جماله إلى حضرة جلاله ؛ فينشرح الصدر بضوء النور الواقع في القلب ، وهذا الضوء هو المسمى بنور الإسلام ؛ لقوله تعالى : { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } [ الزمر : 22 ] ، والنور الواقع في القلب : هو المسمى بنور الإيمان مهما يكون من وراء الحجب الرقاق ؛ أي : الحجب الروحانية ، كلما كان الحجاب أرق يكون الإيمان والقلب أنور وأرق وأصفى إلى أن يصير الإيمان إيقاناً وكمال رقة بالحجاب ، وتنور القلب إلى أن يصير الإيقان عياناً ضدد رفع الحجاب ، وتجلي الحق تبارك وتعالى بصفة جماله إلى أن يصير العيان عيناً تجلي صفة جلاله . { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } [ الأنعام : 125 ] يعني : ظلمات طبيعته وميلان هوى نفسه وطبعه ، فيبقى في ضيق صفات بشريته ، وحرج تعلقاته بالدنيا ، وما فيها وتتبع شهواته ولذاته ظلمات بعضها فوق بعض حتى لا يبقى فيه الرجوع إلى الخالق من التمادي في الباطل ، فلا يسوغه الشرب من المشارب الروحانية الربانية لإستهلاكه في الصفات الحيوانية النفسانية ، وإن حكم عليه بإتباع الحق ليشق عليه . { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ } [ الأنعام : 125 ] ؛ لأنه سفلي الطبع لا يصعد إلا بالتصعيد والقسر ، { كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ } [ الأنعام : 125 ] الضلالة والبعد والطرد ، { عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : 125 ] لا يصدق الأنبياء والأولياء فيما أتاهم من فضله ولا يتبعونهم . { وَهَـٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً } [ الأنعام : 126 ] ؛ أي : هذا الذي بيناه من الهداية والضلالة للسعداء والأشقياء طريق مستقيم لربك باللطف والقهر ، فبجذبات اللطف كما ذكرنا يهدي السعيد إلى حضرة الربوبية بإقامة العبودية ، وبخذلان القهر يضل الشقي عن الحضرة بإتباع الهوى والقطيعة ، { قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَاتِ } [ الأنعام : 126 ] بين السعيد والشقي ، { لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } [ الأنعام : 126 ] يتعظون ويتبعون سبيل الأنبياء والأولياء ، ويتركون سبيل الشيطان والهوى ، { لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 127 ] أي : وراء السلامة عن القطيعة في مقام العندية بالوصول إلى الوحدة بعد الخروج من ظلمات الإثنينية . { وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 127 ] ؛ يعني : هو الذي يتولاهم بالإخراج عن ظلمات اثنينتهم والإيصال إلى نور ربوبيته ، كما قال تعالى : { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [ البقرة : 257 ] ، فافهم جيداً . ثم أخبر عن الجن والإنس وما بينهما من الوحشية والأنس بقوله تعالى : { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ ٱلإِنْسِ } [ الأنعام : 128 ] ، وقوله تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } [ الأنعام : 22 ] ، يشير إلى أنه تعالى حشر وجمع الجن وهي صفة الشيطانية والإنس ، وهي النفس وصفاتها في موفق القالب البشري بحكمة بالغة وقدرة كاملة ويحيطها بقوله : يا معشر الجن وإلى الصفات الشيطانية قد استكثرتم من الإنس ؛ أي : قبلتم على الصفات الإنسانية ، وأضللتموهم عن طلب الحق وهو الصراط المستقيم إلى الله الذي خلق الإنسان للعبور عليه والوصول إلى الحق ، ومن شأنه إقعاد الإنسان عن هذا الصراط ، كما قال : { فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الأعراف : 16 ] ، { وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلإِنْسِ } [ الأنعام : 128 ] ؛ أي : النفس الإنسانية التي من حسنها ودناءة نفسها التي هي أمارة بالسوء وهي من أولياء الشياطين ، { رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا } [ الأنعام : 128 ] ، واستمتاع النفس الإنسانية بالشيطان هو أن يستعين بصفات مكره وخديعته وكيده وحيلته وتكبره وتمرده على تحصيل شهواتها الدنيوية ومستلذاتها واستيفاء حظوظها منها وتكبراً للحق تعالى موافقة هواها ، وأمَّا استمتاع الشيطان بالإنس هو أن يستعين به على إضلال الحق وإغوائهم عند عجزه عن إغوائهم ، كما استعان بحواء على آدم عليه السلام في أكل الشجرة ، { أَجَلَنَا ٱلَّذِيۤ أَجَّلْتَ لَنَا } [ الأنعام : 128 ] ؛ يعني : مدة استمتاع بعضنا ببعض وكميته الذي قدرت لنا ، أشاروا بهذا : إلى أن ما جرى منهم إنما كان مقتضى ارتضائه وقدره ، فأجابهم الله تعالى : { قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَٰكُمْ خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } [ الأنعام : 128 ] ؛ يعني : كما قدَّرنا لكم الاستمتاع قدَّرنا أن النار تكون مثواكم وأنتم فيها خالدون ، إلاَّ من شاء الله أن يتوب ويرجع إلى الله ؛ فلا تكون النار مثواه ؛ فلا استثناء راجع إلى أهل التوبة في الدنيا لا إلى أهل الخلود في النار . { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } [ الأنعام : 128 ] ، فيما يجعل بعض أهل الاستمتاع أهل النار وبعضهم أهل الجنة ، { عَلِيمٌ } [ الأنعام : 128 ] ، إنهم لا يهمهم خلقوا للنار أم الجنة ، { وَكَذٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعْضاً } [ الأنعام : 129 ] ، يعني : حعلنا مرده الجن والإنس ، بعضهم أولياء بعض ، كذلك يجعل الضالّين بعضهم أولياء بعض ؛ ليعين بعضهم ببعض على الظالم والفساد ، كما يعين الشيطاني النفس على المعاصي ، { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الأنعام : 129 ] ؛ يعني : سبب أن الظالمين كانوا يفسدون استعدادهم الفطري الروحاني القابل للفيض الربّاني ؛ يوضع المعاملات النفسانية الحيوانية موضعها ، التي هي مانعة عن قبول الفيض .