Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 159-163)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أخبر عن مضار في الدين المتين بقوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } [ الأنعام : 159 ] والإشارة فيها : { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } ، أي : دينهم الذي ارتضي لهم الله تبارك وتعالى هو الدين الحقيقي الذي فيه كمالية الإنسان ، وتمامية نعمة الحق تعالى وهو الفوز العظيم بنور الله التام ، كما قال تعالى : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ } [ الصف : 8 ] فارقوا بقلوبهم ، وإن كانوا متمسكين ببعض سعادة بظواهرهم رياء وسمعة أو خوفاً وطمعاً ، { وَكَانُواْ شِيَعاً } [ الأنعام : 159 ] ، أي : صاروا هؤلاء الفارقون المارقون فرقاً مختلفة ، فرقة منهم أهل الأهواء والبدع من المذاهب المختلفة : كالمعتزلة والنجارية والمعطلة نافية الصفات والمشبهة والجسمية والمرجئة والجبرية والقدرية والروافض والخوارج وأمثالهم ممن يزعم أنه من أهل الإسلام ، وفرقة منهم أهل الدعاوي من غير المعاني كبعض المتزهدين بالرياء ، والمتصوفين بغير الصفاء ، والعارفين الجاهلين المكذبين العادين عن المعرفة منهم : القلندرية والحوالقية وأكثر من يدَّعي الفقر وما شمَّ رائحته ، وكبعض الغافلين البطالين والعلماء بالسوء الذين يأكلون الدنيا بالدين وهو [ بأبدانهم ] في طلب العلم وحرفة الجاه والقبول وجمع المال والمفاخرة والمباهاة والشهرة وأخذ المناصب للمكاسب ، فإنهم يدَّعون من خواص أهل الإسلام ويظهرون شعائر الصالحين ويضمرون دثار الصالحين . ومنهم فرقة خلعوا من ربقة الإسلام بالكلية وخرقوا من الدين خروق السَّهم من الرمية ، ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم : كالمتفلسفة والدهرية والطبائعية والحشوية والزنادقة والإباحية والمباركية والإسماعيلية والأباضية والحرورية وطوائف ، فإن فيهم كثرة وليس أحد منهم على دين الإسلام ، ولكن يخرطون في مسلكهم ، وكانوا يتملكوا بملكهم ، فهؤلاء أقوام اتفقوا بأبدانهم وافترقوا بقلوبهم وأديانهم مجتمعين جهراً بجهر متفرقين شبراً بشبر . قال الله تعالى : { لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } [ الأنعام : 159 ] ، ولا يجمعك وإياهم معنى شقك شق الحقائق وشقهم شق البواطل ، ولا اجتماع للضدين ، { إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى ٱللَّهِ } [ الأنعام : 159 ] ، أي : في بدء الأمر في الخلقة في قسم الاستعداد على ما شاء كما شاء ، وفي الحال بالتوفيق والخذلان وفي المال بالمكافآت والمجازات ، { ثُمَّ يُنَبِّئُهُم } [ الأنعام : 159 ] ، عند المكافآت يوم المجازات ، { بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ الأنعام : 159 ] ، في الدينا ، إذا كانوا يشترون الحياة الدنيا بالآخرة ، ولا ينبئهم عما فعله في البداية من التدبير والتقدير . ثم أخبر عن مجازات الحسنات والسيئات بقوله تعالى : { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] ، والإشارة فيها : إن الله تبارك وتعالى من كمال إحسانه مع العبد أحسن إليه بعشر حسنات قبل أن يعمل العبد حسنة واحدة ، فقال تعالى : { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] ، يعني : قبل أن يجئ بحسنة أحسنت إليه بعشر حسنات ؛ حتى يقدر أن يجيء بالحسنة ، وهي : حسنة الإيجاد من العدم ، وحسنة الاستعداد بأن خلقه في أحسن تقويم مستعداً للإحسان ، وحسنة التربية ، وحسنة الرزق بعثة الرسل ، وحسنة إنزال الكتب ، وحسنة تبيين الحسنات والسيئات ، وحسنة التوفيق ، وحسنة الإخلاص في الإحسان ، وحسنة قبول الحسنات . { وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَىۤ إِلاَّ مِثْلَهَا } [ الأنعام : 160 ] ، والسر فيه : إن السيئة بذر يذرع في أرض النفس والنفس خبيثة ؛ لأنها أمَّارة بالسوء ، والحسنة بذر يذرع في أرض القلب والقلب طيِّب ؛ لأنه يذكر الله { أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] ، وقد قال تعالى : { وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَٱلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً } [ الأعراف : 58 ] ، وأمَّا ما جاء في القرآن والحديث من تفاوت الجزاء للحسنات فاعلم أنه كما للأعداد أربع مراتب : آحاد وعشرات ومئات وألوف ، والواحد في مرتبة الآحاد واحد ، وفي مرتبة العشرات عشرة ، وفي مرتبة المئات مائة ، وفي مرتبة الألوف ألف ، فكذلك للإنسان أربع مراتب : النفس ، والقلب ، والروح ، والسر ، فالعمل الواحد في مرتبة النفس يكون واحد بعينه ، كما قال تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ، إذ هي بمرتبة الآحاد ، وفي مرتبة القلب يكون بعشر أمثالها ؛ لأنه بمرتبة العشرات ، وفي مرتبة الروح يكون بمائة ؛ لأنه بمرتبة المئات ، وفي مرتبة السر يكون بألف إلى أضعاف كثيرة بقدر صفاء السر وخلوص النية إلى ما لا يتناهى ؛ لأنه منزلة الألوف ، والله اعلم . { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ الأنعام : 160 ] ، المعنى : إن الله تعالى قد أحسن إليهم قبل أن يحسنوا بعشر حسنات شاملات للحسنات الكثيرة ، فلا يظلمهم بعد أن أحسنوا ، بل يضاعف حسناتهم يدل عليه قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 40 ] . ثم أخبر عن الصراط المستقيم وأنه هو الدين القيم بقوله تعالى : { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الأنعام : 161 ] ، الإشارة فيها : إن الإنسان لمَّا فارق غيب الغيب ، وإن شاءته القدرة في عالم الأرواح فقد الحق عند وجدان الوجود ، فلما أراد إلى أسفل سافلين القالب ضل عن سواء السبيل إلى أن أدركته العناية وساقته الهداية بجذبة : { ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ } [ الفجر : 28 ] ، فيهديه ربه من تيه الضلالة والغواية إلى صراط مستقيم الدين القويم ، كما قال تعالى لنبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم : قل : يعني ؛ أخبر الخلق أحوالك ؛ ليعرفوك فيتبعوك عليه ، أي ؛ هداني بعد أن وجدني ضالاً عنه في تيه البشرية إلى صراط مستقيم إليه ، دل عليه قوله تعالى : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } [ الضحى : 7 ] ، واعني بالصراط المستقيم : { دِيناً قِيَماً } [ الأنعام : 161 ] ، مبنياً على قرآن عجب يهدي إلى الرشد عند التمسك بحبله يوصل العبد إلى ربه . { مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } [ الأنعام : 161 ] ، أي : ذاهب إلى الحق ؛ لقوله تعالى : { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الصافات : 99 ] ، { وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 161 ] ، الذين يطلبون مع الله شيئاً آخر ويطلبون منه غيره ، { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي } [ الأنعام : 162 ] ، أي : سيرى على منهاج الصلاة ؛ وهي معراج إلى الله وذبيحة نفسي لله ، { وَمَحْيَايَ } [ الأنعام : 162 ] ، أي : حياة قلبي وروحي ، { وَمَمَاتِي } [ الأنعام : 162 ] أي : موت نفسي ، { لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 162 ] ، لطلب الحق تعالى والوصول إليه ، { لاَ شَرِيكَ لَهُ } [ الأنعام : 163 ] ، في الطلب من مطلوب سواه ، { وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ } [ الأنعام : 163 ] ، أي : ليس هذا الطلب والقصد إلى الله من نظري وعقلي وطبعي ؛ إنما هو من فضل الله ورحمته وهدايته وكمال عنايته إذ أوحى إلي وقال : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل : 8 ] ، وقال : { قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ } [ الأنعام : 91 ] . { وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ } [ الأنعام : 163 ] ، يعني : أنا أوَّل من استسلم عند الإيجاد لأمركن ، وعند قبول فيض المحبة بقوله : [ يحبهم ] ، والاستسلام للمحبة في قوله : [ يحبونه ] ، دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " أول ما خلق الله نوري " .