Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 17-21)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أخبر عن ضرر الشرك وخير التوحيد أنهما إليه وبه بقوله تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 17 ] ، الآيتان والإشارة فيهما أن تعلم أن المقدر هو المدبر ، ولا ينجيك من البلاء إلا من يعنيك في العناء ، وإن تعلم أن دائرة أزليته متصلة بأبديته ، وإن كل نقطة من الدائرة تصلح أن تكون مبدأ الدائرة وأولها ، ومنتهى الدائرة وآخرها ، فكل آن من آن أزليته وأبديته يصلح أن يكون أزلاً وأبداً ، فبهذا يتحقق قوله تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ } [ الأنعام : 17 ] ؛ أي : يصيبك بقهر من الإبعاد ويبتليك بالإشراك والإضلال في البداية من حرمان النور المرشش على الأرواح . { فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 17 ] ، في النهاية { وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ } [ الأنعام : 17 ] ؛ أي : يصيبك بلطف من إصابة النور المرشش في البداية والنهاية ، أو فيما بينهما ويهديك إلى الصراط المستقيم الذي هو صراط الله ، { فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } [ الأنعام : 17 ] ، أزلاً وأبداً . { وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [ الأنعام : 18 ] في الأزل ، فبالقهر أخرجهم من مكامن العدم إلا أنه سبحانه وتعالى يقهر هذه الحالة ويبدل العدم بالوجود ، وقد عم قهره جميع عباده ، فقهر الكفار بموت القلوب وحياة النفوس إذ أخطأهم النور المرشش على الأرواح في بدء الخلقة ، فضلوا في ظلمات الطبيعة وما اهتدوا إلى نور الشريعة ، وقهر نفوس المؤمنين بأنوار الشريعة ؛ فأخرجهم عن ظلمات الطبيعة بالقيام على طاعته وقهر قلوب المحبين في بلوغات الاشتياق ، فأسنها بلطف مشاهدته وقهر أرواح الصديقين بسطوات تجلي صفات جماله ، وقهر أسرار الواصلين بسطوات بها صفات جلاله ، وبالجملة لا ترى شيئاً سواه ، إلا وهو مقهور تحت أعلام عزته وذليل في ميادين صمديته { وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ } [ الأنعام : 18 ] ، فيما يقهر فلا يخلو عن حكمته بالعز { ٱلْخَبِيرُ } [ الأنعام : 18 ] ، بما يصلح للطعن وقهره ، فالقهر بما قهره أولى ، واللطف بما لطفه به أخرى . ثم أخبر عن أكبر الشهادة لأهل السعادة بقوله تعالى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَٰدةً قُلِ ٱللَّهُ } [ الأنعام : 19 ] ، والإشارة فيها أن الله تعالى أراد أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عقول مشركي أهل مكة بطريق السؤال عنهم في معرفة الله تعالى وجهلهم به ، فأخبرهم بالسؤال ، وقال : قل أي شيء أكبر شهادة ، فمن كان التوفيق رفيقه يعلم أن شهادة الله أكبر من شهادة الخلق ، وعلومهم لا تحيط بحقائق الأشياء كلها ، والحق سبحانه هو الذي يحيط علمه بجميع حقائق الأشياء ؛ لا سيما بحقيقة وحدانيته فيؤمن بالله وحده ولا يشرك به أحداً ، ومن أوبقه الخذلان وعوقه الخسران يعرف الله ويقول : هو أكبر شهادة أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم قل الله قل هو الله الذي أكبر شهادة من كل شيء وهو { شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 19 ] ، لعلهم ينتهون ، ويعرفون الله بتعريفه إياهم ويؤمنون به . ثم قال { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ } [ الأنعام : 19 ] أي : قل يا محمد وأوحي إلى هذا القرآن وهو معجز من أعظم المعجزات وهو الجوامع الكلم التي أويتها { لأُنذِرَكُمْ بِهِ } [ الأنعام : 19 ] ، وأنبئكم بآياته وحقائقه وإعجازه لما فيه من أخبار الأمم السالفة ، ولما فيه من الأعلام لما سيكون فكان مثل ما قال : { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } [ المائدة : 67 ] أي : من أن يقتلوك ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم معصوماً منهم . وقال تعالى : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] ، فأظهر الله تعالى دين الإسلام على سائر الأديان بالحجة القاطعة وغلبة المسلمين على أكثر أقطار الأرض ، وقال تعالى في اليهود وكانوا في وقت مبعثه أعز قوم وأمنعهم : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ } [ البقرة : 61 ] ، فهم أذلاء إلى يوم القيامة ، وأتى في القرآن بما كان وبما يكون وأوتي به مؤلفاً تأليفاً لم يقدر أحد من العرب أن يأتي بسورة مثله ، وهم في الوقت الذي قيل لهم : ائتوا بسورة خطباء بلغاء شعراء لم يكن عندهم شيء إلا وجد من الكلام المنثور والموزون ، فعجزوا عن ذلك فهذا كله حجة الله على من أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمَن بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] ، بلغت نبوته ودعوته في حال حياته وبعد وفاته ، وفيه إشارة أخرى : وهي لا تدرككم به ومن بلغه القرآن أعني وقف على حقائقه أيضاً ينذركم به متابعة لي ، ويقول : بعد وفاتي بظهور ما أخبر القرآن بظهوره بعدي مع اليهود والنصارى وسائر المشركين { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَىٰ } [ الأنعام : 19 ] ، بعد ظهور الإسلام على الأديان كلها ، وبعد أن بلغ ملك هذه الأمة من الشرق إلى الغرب . كما أخبر صلى الله عليه وسلم قال : " زويت لي الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِي لي مِنْهَا " ، فأي دليل أقوى وأظهر من هذا ، كما قيل : إذا طلع الصباح استغني عن المصباح ، ثم قال تعالى : { قُل لاَّ أَشْهَدُ } [ الأنعام : 19 ] ؛ يعني : فإن أصمهم الله وأعمى أبصارهم حتى لا ينتبهوا عن نومه الغفلات ولا يسمع هذه التقريرات ، ولا يبصروا هذه المشاهدات والمعاينات ، وهم يشهدون آلهة أخرى في الظواهر من الأوثان ، وفي الباطن من الهوى والدنيا ويعبد بها من دون الله { قُلْ } [ الأنعام : 19 ] ، أنت يا محمد لا أشهد ما لا أشهد ما تشهدون لأني أشاهد من شهود الحق ما لا تشاهدون { إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } [ الأنعام : 19 ] ، وقد شاهدت وحدانيته بوحدته { وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 19 ] ، من الاثنينية التي أوبقتكم من الشرك . ثم أخبر عن أهل المعرفة وذكر أهل النكرة بقوله تعالى : { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ } [ الأنعام : 20 ] ، إلى قوله : { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ الأنعام : 24 ] ، الإشارة فيها أن الله تعالى ميز أهل المعرفة من أهل النكرة ، إذ قال بعد قوله : { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَىٰ قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 19 ] . { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ } [ الأنعام : 20 ] أي : فهمت قلوبهم حقائق الكتاب حتى تنورت بأنوارها فهم من ذلك يعرفونه ؛ أي : يعرفون الله أنه إله واحد لا شريك له ، ويجوز أن الهاء في قوله : يعرفونه عائدة إلى النبي صلى الله عليه وسلم نور كقوله تعالى : { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } [ المائدة : 15 ] ، فالنور هو محمد صلى الله عليه وسلم ، والنور لا يدرك ولا يعرف إلا بالنور ، فإن الكفار من أهل الكتاب فلما كانوا أصحاب الظلمة ما عرفوا الله ولا رسوله ، كقوله تعالى : { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [ البقرة : 89 ] ، وفي قوله تعالى : { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [ البقرة : 146 ] ، إشارة إلى أن الآباء قد تحقق عندهم أنهم مصادر الأبناء ومبدأ وجود الأبناء منهم ، فكذلك أهل المعرفة قد تحقق عندهم أن الله تعالى مصدرهم ومبدأ وجودهم منه تبارك وتعالى ، وهو إله واحد لا شريك له ولكن { ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } [ الأنعام : 20 ] ، بإفساد استعداد فطرة الله التي فطر الناس عليها ، وهو قبول نور الإيمان أفسدوه بانهماكهم في الشهوات الحيوانية ومتابعة الهوى { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : 20 ] ، بأن الله إله واحد ؛ لأنهم من نور الإيمان بمعزل . { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } [ الأنعام : 21 ] ، بأن يفسد استعداده الفطري فيضع الآلهة من الهوى والدنيا موضع إله واحد { أَوْ كَذَّبَ بِآيَٰتِهِ } [ الأنعام : 21 ] ، إذ يراها فلا يعرفها من عمى القلب { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ } [ الأنعام : 21 ] ، من عمائهم ؛ لأن من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً .