Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 154-156)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم أخبر أن رضا الرب في سكون الغضب بقوله تعالى : { وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ } [ الأعراف : 154 ] الإشارة فيها : أن في قوله تعالى : { وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ أَخَذَ ٱلأَلْوَاحَ } [ الأعراف : 154 ] إشارة إلى أن موسى عليه السلام الروح مهما اتصف بصفة من صفات النفس مثلاً : الغضب وغيره وباقي ما لاح له من اللوائح الربانية عند استيلاء تلك الصفة ، ولمَّا سكت عنه تلك الصفة واضمحلت يعود إليه ما كان بحاله من تلك اللوائح الربانية والكشوف الربانية ، { وَفِي نُسْخَتِهَا } [ الأعراف : 154 ] ؛ أي : في المنتسخ منها ؛ يعني : في الذي عاد إلى الروح من اللوائح التي ألقاها عند غلبة صفة من صفات النفس { هُدًى } [ الأعراف : 154 ] ما يهدي إلى الحق { وَرَحْمَةٌ } [ الأعراف : 154 ] ما هو يرحم ، { لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } [ الأعراف : 154 ] ؛ أي : على أهل الرغبة والرهبة ممن يرغب إلى الله بصدق الطلب ، ويرهب من عذاب أليم والانقطاع عنه . ثم أخبر عن اختيار أهل الاختيار بقوله تعالى : { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا } [ الأعراف : 155 ] إلى قوله : { وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 156 ] الإشارة فيها : أن الله تعالى امتحن موسى عليه السلام باختيار قومه ، كما قال تعالى : { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا } ليعلم أن المختار من الخلق من اختاره الله لا الذي اختاره الخلق ، وأن لله الاختيار الحقيقي ؛ لقوله تعالى : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ } [ القصص : 68 ] وليس للخلق الاختيار الحقيقي لقوله تعالى : { مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ } [ القصص : 68 ] ثم استخرج من القوم المختار ما كان موجباً للرجفة والصعقة والمهالك وهو : سوء الأدب في سؤال الرؤية جهاراً ، وكان ذلك مستوراً عن نظر موسى عليه السلام متمكناً في جبلتهم وكان الله المتولي للسرائر ، وحكم موسى بظاهر صلاحيتهم فأراه الله تعالى أن الذين اختارهم يكون مثلك لقوله تعالى { وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىۤ } [ طه : 13 ] ، والذي يختاره يكون كالقوم ، فلما تحقق موسى عليه السلام أن المختار من اختاره الله حكم بسفاهة القوم ، وأظهر الاستكانة والتضرع والاعتذار والتوبة والإنابة والاستغفار والاسترحام ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ } [ الأعراف : 155 ] وفيه إشارة أخرى : أن نار شوق الرؤية كما كانت متمكنة في قلب موسى عليه السلام بالقوة ، وإنما ظهرت بالفعل بعد أن سمع كلام الله تعالى ، فإن من اصطكاك حجر القلب ظهرت شرر نار الشوق فاشتعل منه كبريت اللسان الصدوق وصعدت شعلة السؤال ، { قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] ، كذلك كانت نار الشوق متمكنة في أحجاره قلوب العوام فباصطكاك زناد سماع الكلام ظهر شوق الشرر فاشتعل منه كبريت اللسان ، ولمَّا لم يكن اللسان لسان النبوة صعد منه دخان السؤال الموجب للصعقة والرجفة ؛ والسر فيه أن يعلم موسى عليه السلام وغيره أن قلوب العباد مختصة بكرامة إيداع المحبة فيها ؛ لئلا يظن موسى أنه مخصوص به ، ويعذره غيره عن تلك المسألة فإنها من غلبات الشوق فظهر عند استماع كلام المحبوب ؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه " وبالأصبعين يشير إلى صفات الجمال والجلال ، وليس لغير الإنسان قلب مخصوص بهذه الكرامة ، وإقامة القلب في أن يجعله مرآة صفات الجمال فيكون الغالب عليه الشوق والمحبة لطفاً ورحمة ، وإزاغته في أن يجعله مرآة صفات الجلال فيكون الغالب عليه الحرص على الدنيا والشهوة قهراً وعزة ، فالنكتة فيه أن قلب موسى عليه السلام لما كان مخصوصاً بالاصطفاء للرسالة والكلام دون القوم كان سؤاله للرؤية شعلة نار المحبة مقروناً بحفظ الأدب على بساط القرب بقوله : { رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] قدم عزة الربوبية وأظهر ذلة العبودية وكان سؤال القوم من القلوب الساهية اللاهية ، فإن نار الشوق تصاعدت بسوء الأدب ، فقالوا : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] قدموا الجحود والإنكار وأخروا طلب الرؤية جهاراً { فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ } [ البقرة : 55 ] بظلمهم ، فشتان بين صعقة موسى عليه السلام وبين صعقة قومه ، فأن صعقته كانت صعقة اللطف مع تجلي الربوبية ، وإن صعقتهم كانت صعقة القهر عند إظهار العزة والعظمة ، ولمَّا كان موسى عليه السلام في مقام التوحيد ثابتاً كان ينظر بنور الوحدة فيرى الأشياء كلها من عند الله تعالى ، فرأى سفاهة القوم وما صدر منهم من آثار صفات قهره فتنة واختباراً لهم ، فلما دارت كؤوس شراب المكالمات وسكر بأقداح المناجاة زل قدمه على بساط الانبساط فقال : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ } [ الأعراف : 155 ] ؛ أي : تزيغ قلب من تشاء بإصبع صفة القهر . { وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ } [ الأعراف : 155 ] ؛ أي : تقيم قلب من تشاء بأصبع صفة اللطف ؛ ليرى جمالك في مرآة القلب ، { أَنتَ وَلِيُّنَا } [ الأعراف : 155 ] المتولي لأمورنا والناظر في هدايتنا ، { فَٱغْفِرْ لَنَا } [ الأعراف : 155 ] ما صدر منا ، { وَٱرْحَمْنَا } [ الأعراف : 155 ] بنعمة الرؤية التي ساكناها ، { وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَافِرِينَ } [ الأعراف : 155 ] ؛ أي : خير من يستر على ذنب المذنبين ؛ يعني أنهم يسترون الذنب ولا يعطون سؤالهم ، وأنت الذي تستر الذنب وتبدل السيئات بالحسنات وتعطي سؤال أهل الزلات ، { وَٱكْتُبْ لَنَا فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً } [ الأعراف : 156 ] بعد حسنة الرؤية كما كتبت لمحمد صلى الله عليه وسلم ولخواص أمته هذه الحسنة في الدنيا . { وَفِي ٱلآخِرَةِ } [ الأعراف : 156 ] ؛ يعني : خصنا بهذه على الفضيلة في الدنيا والآخرة ، { إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] ؛ أي : رجعنا إليك في طلب هذه الفضيلة في السر لا بالعلانية وأنت الذي تعلم السر وأخفى ؛ فأجابهم الله تعالى سراً بسر وإضماراً بإضمار ، { قَالَ عَذَابِيۤ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ } [ الأعراف : 156 ] ؛ أي : بصفة قهري آخذ من أشاء ، وبقراءة من قرأ أساء من الإساءة ؛ أي : من أساء في الأدب عند سؤال الرؤية ، قالوا : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] ، آخذهم على سوء أدبهم ، فأدبهم تأديب عذاب الفرقة ، { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ] نعمة وإيجاداً وتربية ، { فَسَأَكْتُبُهَا } [ الأعراف : 156 ] مني حسنة الرؤية والرحمة التي أنتم تسألونها ، { لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـاةَ } [ الأعراف : 156 ] ؛ يعني : يتقون الله عن غيره ، ويؤتون عن نصاب هذا المقام الزكاة طلابه ، { وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 156 ] الذين هم يؤمنون ؛ يعني : الذين هم يؤمنون بأنوار شواهد الآيات لا بالتقليد بل بالتحقيق وهم خواص هذه الأمة ، كما عرف أحوالهم وصرَّح أعمالهم بقوله تعالى : { ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ } [ الأعراف : 157 ] .