Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 171-174)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم أخبر عن طبيعة الإنسان إن وكل إليها بالخذلان بقوله تعالى : { وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ } [ الأعراف : 171 ] يشير إلى أن الإنسان لو وكل إلى نفسه وطبيعته لا يقبل شيئاً من الأمور الدينية طبعاً ، ولا يحمل أثقاله قطعاً ؛ إلا أن يعان على القبول والحمل ، كما كان حال بني إسرائيل لما أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة ويعملوا بها رفع الله على رأسهم جبلاً ، { وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } [ الأعراف : 171 ] فاضطروا إلى القبول ، فكذلك أرباب العناية رفع الله تعالى على رؤوسهم جبل رحمة ، { كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } إن لم يتوجهوا على الطلب ولم يطلبوا أثقال المجاهدات والرياضيات ؛ أي : لو وكلوا إلى أنفسهم ما حملوا ، وفي قوله تعالى : { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ } [ الأعراف : 171 ] إشارة إلى أن على رؤوس أهل الطلب جبل أمر الحق تعالى وهو أمر التحويل ؛ أي : يحولهم بالقدرة ؛ أي : بأن يأخذوا ما آتاهم الله بقوة منه لا بقوتهم وإرادتهم ، { وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ } [ الأعراف : 171 ] ؛ يعني : فيما أتاكم الله من فضله ، { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأعراف : 171 ] عما سواه به . ثم أخبر عن حال الإنسان أنه ما وكله إلى طبيعة طينته في أصل الخلقة ، بل ألزمه التوحيد في حال التجريد بقوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ } [ الأعراف : 172 ] إلى قوله : { وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأعراف : 174 ] يشير إلى أن أخذ المخلوقين يكون أخذ الشيء الموجود من الشيء الموجود ، وأن أخذ الخالق تارة هو أخذ الشيء المعدوم من العدم ، كقوله تعالى : { خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [ مريم : 9 ] ، وتارة هو أخذ الشيء المعدوم من الشيء المعدوم ، كقوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [ الأعراف : 172 ] فكانوا معدومين ، فأخذ من كمال قدرته ذرِّيَّتهم المعدومة إلى يوم القيامة من ظهورهم المعدومة من بني آدم المعدومين ، فأخذ الله تعالى تلك وأعطاهم وجوداً مناسباً لتلك الحالة ، وإنا قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ } خصَّ النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب ، وما قال : ربكم ليعلم أن في معنى الآية دقة وغموض لا يطلع عليها غيره ومن أنعم الله به عليه من خواص متابعيه . { مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } ؛ أي : فاستخرج الذريات المودعة في ظهور بني آدم عليه السلام من ذريته إلى يوم القيامة من ظهر آدم عليه السلام وهو في العدم بعد ، { وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [ مريم : 9 ] فكان هذا الاستخراج قدمياً ، وآدم عليه السلام عدمياً فتجلى عليهم بالصفة الربوبية ورباهم بلا هُمْ ، فبوجوده جعل وجودهم وجوداً هو به ؛ أي : أعطاهم شهوداً هو به يشاهدون به بأنفسهم المعدومة ، فكانوا يسمعون الخطاب { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [ الأعراف : 172 ] من لسان حال التجلي ، وبه أجابوه : { قَالُواْ بَلَىٰ } [ الأعراف : 172 ] أنت ربنا الذي أعطيتنا وجود الأنانية ربانية به سمعنا كلامك وبه أجبنا خطابك ، فالمسبحون منهم كانوا على ثلاث طبقات : السابقون وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة : { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ } [ النحل : 78 ] كما يناسب تلك الحالة ، ثم نظر إلى السابقين بنظر المحبة فجعلهم مستعدين لمحبته ؛ كقوله تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، ونور سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم بأنوار المحبة ، فلما قال : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } فبالسمع المنور بنور المحبة سمعوا خطابه ، وبالأبصار المنورة شاهدوا جماله ، وبالقلوب المنورة نظروا لقائه وفهموا خطابه ، فأجابوه بلسان المحبة شوقاً وصدقاً وتعبداً ورقاً وإيماناً حقاً ؛ لاختصاصهم بنور المحبة ، قالوا : بلى أنت ربنا ومحبوبنا ومعبودنا . وأمَّا أصحاب الميمنة : فإن لم يختصوا بنور المحبة فلم يبتلوا بنار المحبة كما ابتلى بها أصحاب المشأمة ، فسمعوا الخطاب بالسمع الرباني ، وأبصروا الشواهد بالأبصار الربانية ؛ وفهموا تعريف الوحدانية بالقلوب الربانية ؛ فأجابوه بلسان الإيمان : { قَالُواْ بَلَىٰ } أنت ربنا ومعبودنا . وأمَّا أصحاب المشأمة : فامتحنوا بإظهار العزة والعلا ، وحجبوا برداء الكبرياء ، فسمعوا الخطاب من وراء الحجاب وعلى الأبصار غشاوة الاختيار والقلوب في أكنة العزة عن الأغيار ، فلم يسمعوه بسمع القبول والطاعة ، فأجابوه بلسان الإقرار بالاضطرار ، وهم في دهشة الوقار ورعشة الافتقار . وأمَّا الاستخراج الفطري : فلمَّا استخرج الله تعالى من ظهر آدم ذرات بيّنة استخرج من ظهورهم ذرات ذرياتهم المودعة فيها إلى يوم القيامة ، والأرواح في تلك الحالة جنود مجندة في ثلاثة صفوف : الصف الأول : أرواح السابقين . والصف الثاني : أرواح أصحاب الميمنة . والصف الثالث : أصحاب المشأمة . وأمَّا ذرات السابقين في الصف الأول : بحذا أرواحهم . وذرات أصحاب الميمنة في الصف الثاني : بحذا أرواحهم . وذرات أصحاب المشأمة في الصف الثالث : بحذا أرواحهم ، فتنورت الذرات بأنوار أرواحها وكسبت تلك الذرات الموجودة بالوجود الرباني لباس الوجود الروحاني ، وكسبت تلك السمع والأبصار والأفئدة الربانية لباساً روحانياً . ثم خاطبهم الحق تعالى : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } فسمع السابقون بسمع روحاني رباني نوراني خطابه ، وشاهدوا بأبصار روحانية ربانية نورانية جماله ، وأجابوا بأفئدة روحانية نورانية بنور المحبة لقائه ، فأجابوه على المحبة : { قَالُواْ بَلَىٰ } أنت ربنا المحبوب والمعبود ، { شَهِدْنَآ } [ الأعراف : 172 ] ؛ أي : شاهدنا محبوبيتك ؛ فأخذوا مواثيقهم ألاَّ يحبوا ولا يعبدوا إلا إياه ، وسمع أصحاب الميمنة بسمع روحاني خطابه ، وطالعوا بأبصار روحانية جلاله ، وآمنوا بأفئدة ربانية بإلهيته ، فأجابوه على العبودية : { قَالُواْ بَلَىٰ } أنت ربنا المعبود و { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ البقرة : 285 ] ، فأخذ مواثيقهم { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] ، وسمع أصحاب المشأمة خطابه بسمع روحاني من وراء حجاب العزة ، وفي آذانهم وقر العزة ، وعلى أبصارهم غشاوة الشقاوة ، وعلى أفئدتهم ختم المحنة ، فأجابوه على الكلفة : { قَالُواْ بَلَىٰ } أنت ربنا سمعاً كرهاً ، فأخذ مواثيقهم على العبودية ؛ فلهذا يرجع التفاوت بين الخليقة في الكفر والإيمان ؛ أي : تفاوت الاستعدادات الروحانية والربانية ، فافهم جدّاً . ثم اعلم أننا لا نجد الله تعالى ذكر أنه كل أحداً وهو بعد في العدم إلا بني آدم ، فإنه كلمهم وهم غير موجودين ، فأجابوه وهم معدومون ، فجرى بالجود في الوجود ما جرى إلا الوجود ، فهذا بدايتهم وإلى هذا ينتهي نهايتهم بأن يكون الله تعالى هو سمعهم وأبصارهم وألسنتهم ، كما قال تعالى : " كنت له سمعاً وبصراً ولساناً فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق " ، وإلى هذا أشار الجنيد - رحمه الله - حين سئل ما النهاية ، وإنما أخذ الله عنهم هذا الميثاق في هذه البداية . { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [ الأعراف : 172 ] ؛ أي : لا تقولوا ، { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } [ الأعراف : 172 ] ؛ أي : كما أغفل عن هذه المرتبة البرية كلها ، { أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ } [ الأعراف : 173 ] ؛ أي أشركوا بأن رضوا الأثنينية ، وما رجعوا إلى الوحدة بالفناء في الله ، { وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ } [ الأعراف : 173 ] مقتدياً بهم ؛ لأنَّا استخرجنا الذرية من ظهور آبائهم لهذا الميثاق ؛ لئلا يقولوا { أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ } [ الأعراف : 173 ] الذي أبطلوا استعداد الرجوع إلى الوحدة ، { وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ } [ الأعراف : 174 ] ؛ أي : نبينها ، والآيات تدلك على الرجوع إلى الله تعالى ، { وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأعراف : 174 ] بهذه الآيات التي شرحناها عن البداية إليها في النهاية وهو مقام الوحدة تفهم إن شاء الله تعالى .