Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 8-13)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أخبر عن تعيين الوزن للنبيِّين بقوله تعالى : { وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ } [ الأعراف : 8 ] ، الإشارة فيها : أن الوزن عند الله يوم القيامة لأهل الحق وأرباب الصدق وأعمال البر كما قال تعالى : { وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ } ، فلا وزن للباطل وأهله ، يدل عليه قوله تعالى : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْناً } [ الكهف : 105 ] ، وروي أنه يؤتى يوم القيامة بالرجل العظيم الطويل الأكول الشَّروب فلا يزن جناح بعوضة ، { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } [ المؤمنون : 102 ] بالأعمال الصالحة والصفات الحميدة والأوصاف الرضية والنعوت المرضيَّة والأحوال السنية والأخلاق الربانية ، { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [ الأعراف : 8 ] الفائزون بإبقاء الحق وبقائه ، الناجون من مقام أنانيتهم لفنائهم ، وإنما قال تعالى : { مَوَازِينُهُ } بالجمع ؛ لأن كل عبد ينصب موازين القسط تناسب حالاته ، فلبدنه : ميزان توزن به أعماله ، ولنفسه : ميزان توزن بها صفاتها ، ولقلبه : ميزان يوزن به أوصافه ، ولروحه : ميزان يوزن به لغته ، ولسره : ميزان يوزن به أحواله ، ولخفيه : ميزان يوزن به أخلاقه ، والخفى : لطيفة روحانية قابلة لفيض الأخلاق الربَّانية ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ " وذلك ؛ لأنه ليس من نعوت المخلوقين بل هو من أخلاق رب العالمين ، والعباد مأمورون بالتخلق بأخلاقه . { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } [ الأعراف : 9 ] مما ذكرنا ، { فَأُوْلَـۤئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُم } [ الأعراف : 9 ] أفسدوا استعدادها لقبول هذه الكمالات التي ذكرناها ، { بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ } [ الأعراف : 9 ] ؛ أي : يجحدون ؛ يعني : أفسدوا استعدادهم حسن لقبول الكمالات بجحودهم . ثم أخبر عن كرمه ونعمه بقوله تعالى : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي ٱلأَرْضِ } [ الأعراف : 10 ] إلى قوله : { صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الأعراف : 16 ] ، والإشارة فيها : أن التمكين لفظ جامع للتمليك والتسليط والقدرة على تحصيل أسباب كل خير وسعادة دنيوية وأخروية وكمال استعداد المعرفة والمحبة والطلب والسير إلى الله تعالى ونيل الوصول والوصال ، وما شرف بهذا التمكين إلا الإنسان ، وبه كرم وبه فضل وبه يتم أمر خلافته ، ولهذا أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام ، وبه منَّ الله تعالى على أولاده بقوله : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي ٱلأَرْضِ } [ الأعراف : 10 ] ؛ أي : سيرناكم ووهبنا لكم في خلافة الأرض ما لم نمكن أحداً غيركم في الأرض من الحيوانات ، ولا في السماء من الملائكة ، { وَجَعَلْنَا لَكُمْ } [ الأعراف : 10 ] خاصة ، { فِيهَا مَعَايِشَ } [ الأعراف : 10 ] ؛ لأنها مجموعة من الملكية والحيوانية والشيطانية والإنسانية ، فمعيشة الملك : روحية ، ومعيشة الحيوان هي : معيشة بدنية ، ومعيشة الشيطان هي : معيشة نفسه الأمارة بالسوء ، ولمَّا حصل للإنسان بهذا التركيب مراتب الإنسانية التي لم تكن لكل واحد من الملك والحيوان والشيطان وهي : القلب والسر والخفي ، فمعيشة قلبه هي : الشهود ، ومعيشة سره هي : الكشوف ، ومعيشة خفيه هي : الوصول والوصال ، { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [ الأعراف : 10 ] ؛ أي : قليلاً منكم من يشكر هذه النعم ؛ أي : نعمة التمكين ونعمة المعايش برؤية هذه النعم والتحديث بها ، فإن رؤية النعم شكرها ، والتحدث بالنعم أيضاً شكر . ثم أخبر عن شرح هذا التمكين وبدوّ أمره ، فقال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } [ الأعراف : 11 ] ؛ أي : خلقنا أرواحكم قبل أجسادكم ، يدل قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام " { ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } أي : خلقنا أجسادكم وجعلناها صور الأرواح . واعلم أن للأجسام وتصويرها بداية في الخلقة ونهاية ، فبدايتها : الذُّريَّة التي استخرجت من ظهر آدم عليه السلام بقوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [ الأعراف : 172 ] ولم يقل : ذراتهم ، وفي الحديث الصحيح : " إن الله مسح ظهر آدم وأخرج ذريته منه كلهم كهيئة الذر " ؛ يعني : في الصغر ، وهذا يدل على أنهم كانوا مصورين في صلب آدم ، ونهايتها : أيضاً لها بداية ونهاية ، فبدايتها : عند تصوير الجنين في الرحم ، كقوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي ٱلأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ } [ آل عمران : 6 ] ، ونهايتها : عند كمال الصورة والجسد في حال الكهولة غالباً ، فمعنى الآية : خلقناكم أرواحاً ثم صورناكم في ظهر آدم ذرية كهيئة الذر ثم في أرحام الأمهات بصورة الجنين ، { ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ } [ الأعراف : 11 ] وأنتم في صلبه فهذا من التمكين أيضاً . { فَسَجَدُوۤاْ } [ الأعراف : 11 ] ؛ يعني : الملائكة ؛ لاستعدادهم الفطري ، { إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ } [ الأعراف : 11 ] لما فيه من الاستكبار للنارية واستعلائها ، { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } [ الأعراف : 12 ] وهذا خطاب الامتحان لجوهر إبليس ؛ ليظهر به استحقاق اللعنة ، فإنه لو كان ذا بصيرة لقال : منعني تقديرك وقضاؤك ومشيئتك الأزلية ، فلما كان أعمى بالعين التي ترى أحكام الله وتقديره وهويته ، بصيراً بالعين التي ترى أنانيته ، { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ } [ الأعراف : 12 ] ؛ يعني : منعتني خيرتي عنه أن أسجد لمن هو دوني ، واستدل على خيريته بقوله تعالى : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] ؛ يعني : النار علوية نورانية لطيفة ، والطين سفلي ظلماني كثيف فهي خير منه ، فأخطأ اللعين في الجواب وفي الاستدلال والقياس من وجوه ، وقد قدرنا خطأه في الجواب . فأمَّا في القياس : فأحد الوجوه : أنَّا لو سلمنا أن النار أفضل ما شرف وأعلى من الطين من حيث الظاهر والصورة ، ولكن من حيث الحقيقة والمعنى الطين أفضل وأشرف منها ؛ لأن من صفات الطين وخواصه : الثبات ومنه النشوء والنمو ، ولهذا السر كان تعلق روح الإنسان به ؛ ليصير قابلاً للترقي ، فإن جوهره كان من قبيل جواهر الملائكة في الروحانية والنورانية وقابل للترقي ، والنار من خاصيتها الإحراق والإفناء . وثانيها : أن في الطين لزُوُجَة وإمساكاً ، فإذا استفاد الروح منه بالترابية هذه الخاصية يصير ممسكاً للفيض الإلهي ، إذ لم يكن ممسكاً له في عالم الأرواح ، ولهذا السر ؛ استحق آدم عليه السلام سجود الملائكة ، وسيأتي شرحه - إن شاء الله تعالى - وفي النار خاصية الإتلاف وهو ضد الإمساك . والثالث : أن الطين مركَّب من الماء والتراب ، والماء مطية الحياة كقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء : 30 ] ، والتراب مطية النفس النامية ، فعند ازدواجهما تتولد النفس الحيوانية ؛ وهو الروح الحيواني وهو مطية الروح الإنساني للمناسبة الزوجية بينهما ، وفي النار ضد هذا من الإهلاك والإفساد ، ثم تقول : شرف سجود آدم وفضله على الساجدين لم يكن لمجرد خواص الطبيعة ، وإن شرف طبيعته لشرف التخمير من غير واسطة لقول : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : " خمر طينة آدم بيده أربعين صباحاً " . وإنما كانت فضيلته عليهم لاختصاصه بنفخ الروح للشرف ، بالإضافة إلى الحضرة فيه من غير واسطة ، كما قال تعالى : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ] ، ولاختصاصه بالتجلي فيه عند نفخ الروح كما قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق آدم فتجلى فيه " ؛ ولهذا السر ما أمر الملائكة بالسجود بعد تسوية قالب آدم من الطين بل أمرهم بالسجود بعد نفخ الروح فيه كما قال تعالى : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ ص : 71 - 72 ] ، وذلك ؛ لأن آدم عليه السلام بعد أن نفخ فيه الروح صار مستعداً للتجلي ؛ لما حصل فيه من لطافة الروح ونورانيته التي يستحق بها التجلي ومن إمساك الطين الذي يقبل الفيض الإلهي ويمسكه عند التجلي فاستحق سجود الملائكة ؛ لأنه صار كعبة حقيقة تفهم - إن شاء الله - وتنفع ، فلا تكون كالشيطان أعمى عند مطالعة هذه الحقائق ، والمتكبر عن الإيمان بها فتخرج من جنة هذه المعارف وروضة هذه العواطف وتخاطب أيضاً بقوله تعالى : { قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّاغِرِينَ } [ الأعراف : 13 ] ، وإنما لزمه الهبوط والخروج من معارف العز ومنازله ؛ لأنه اعتصم بيد الإباء والاستكبار في جبل الأنانية بقوة الخيرية ، فاستخرج وهبط من عالم العلو إلى عالم السفل ، وصار من الصاغرين بعد أن كان من الكافرين ، فلما ابتلي بالقضاء وطرد من الجوار أخذ في النوح وألبس من الروح ورضي بالعباد واطمأن بالحياة .