Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 84-95)
Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } إلى آخر القصة أي : { وَ } أرسلنا { إِلَىٰ مَدْيَنَ } القبيلة المعروفة الذين يسكنون مدين ، في أدنى فلسطين { أَخَاهُمْ } في النسب { شُعَيْباً } لأنهم يعرفونه ، وليتمكنوا من الأخذ عنه . فـ { قَالَ } لهم : { يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } أي : أخلصوا له العبادة ، فإنهم كانوا يشركون به ، وكانوا - مع شركهم - يبخسون المكيال والميزان ، ولهذا نهاهم عن ذلك فقال : { وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } بل أوفوا الكيل والميزان بالقسط . { إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } أي : بنعمة كثيرة وصحة ، وكثرة أموال وبنين ، فاشكروا الله على ما أعطاكم ، ولا تكفروا بنعمة الله فيزيلها عنكم . { وَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } أي : عذاباً يحيط بكم ، ولا يبقي منكم باقية . { وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ } أي : بالعدل الذي ترضون أن تعطوه ، { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ } أي : لا تنقصوا من أشياء الناس ، فتسرقوها بأخذها بنقص المكيال والميزان . { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } فإن الاستمرار على المعاصي ، يفسد الأديان ، والعقائد ، والدين ، والدنيا ، ويهلك الحرث والنسل . { بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي : يكفيكم ما أبقى الله لكم من الخير ، وما هو لكم ، فلا تطمعوا في أمر لكم عنه غنية ، وهو ضار لكم جداً . { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } فاعملوا بمقتضى الإيمان ، { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أي : لست بحافظ لأعمالكم ووكيل عليها ، وإنما الذي يحفظها الله تعالى ، وأما أنا فأبلغكم ما أرسلت به . { قَالُواْ يٰشُعَيْبُ أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ } أي : قالوا ذلك على وجه التهكم بنبيهم ، والاستبعاد لإجابتهم له . ومعنى كلامهم : أنه لا موجب لنهيك لنا ، إلا أنك تصلي لله وتتعبد له ، أفإن كنت كذلك ، أفيوجب لنا أن نترك ما يعبد آباؤنا ، لقول ليس عليه دليل إلا أنه موافق لك ، فكيف نتبعك ونترك آباءنا الأقدمين أولي العقول والألباب ؟ ! وكذلك لا يوجب قولك لنا : { أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا } ما قلت لنا من وفاء الكيل والميزان ، وأداء الحقوق الواجبة فيها ، بل لا نزال نفعل فيها ما شئنا لأنها أموالنا ، فليس لك فيها تصرف . ولهذا قالوا : في تهكمهم : { إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ } أي : أئنك أنت الذي الحلم والوقار لك خلق ، والرشد لك سجية ، فلا يصدر عنك إلا رشد ، ولا تأمر إلا برشد ، ولا تنهى إلا عن غي ، أي : ليس الأمر كذلك . وقصدهم أنه موصوف بعكس هذين الوصفين : بالسفه والغواية ، أي : أن المعنى : كيف تكون أنت الحليم الرشيد ، وآباؤنا هم السفهاء الغاوون ؟ ! ! وهذا القول الذي أخرجوه بصيغة التهكم ، وأن الأمر بعكسه ، ليس كما ظنوه ، بل الأمر كما قالوه . إن صلاته تأمره أن ينهاهم ، عما كان يعبد آباؤهم الضالون ، وأن يفعلوا في أموالهم ما يشاؤون ، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وأي فحشاء ومنكر ، أكبر من عبادة غير الله ، ومن منع حقوق عباد الله ، أو سرقتها بالمكاييل والموازين ، وهو عليه الصلاة والسلام الحليم الرشيد . { قَالَ } لهم شعيب : { يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } أي : يقين وطمأنينة في صحة ما جئت به ، { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً } أي : أعطاني الله من أصناف المال ما أعطاني . { وَ } أنا لا { مَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } فلست أريد أن أنهاكم عن البخس في المكيال والميزان ، وأفعله أنا ، وحتى تتطرق إليَّ التهمة في ذلك . بل ما أنهاكم عن أمر إلا وأنا أول مبتدر لتركه . { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ٱلإِصْلاَحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ } أي : ليس لي من المقاصد إلا أن تصلح أحوالكم وتستقيم منافعكم ، وليس لي من المقاصد الخاصة لي وحدي شيء بحسب استطاعتي . ولما كان هذا فيه نوع تزكية للنفس ، دفع هذا بقوله : { وَمَا تَوْفِيقِيۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ } أي : وما يحصل لي من التوفيق لفعل الخير ، والانفكاك عن الشر إلا بالله تعالى ، لا بحولي ولا بقوتي . { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي : اعتمدت في أموري ووثقت في كفايته ، { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } في أداء ما أمرني به من أنواع العبادات ، وفي [ هذا ] التقرب إليه بسائر أفعال الخيرات . وبهذين الأمرين تستقيم أحوال العبد ، وهما الاستعانة بربه والإنابة إليه ، كما قال تعالى : { فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] وقال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] . { وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيۤ } أي : لا تحملنكم مخالفتي ومشاقتي { أَن يُصِيبَكُم } من العقوبات { مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } لا في الدار ولا في الزمان . { وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } عما اقترفتم من الذنوب { ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ } فيما يستقبل من أعماركم بالتوبة النصوح ، والإنابة إليه بطاعته ، وترك مخالفته . { إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } لمن تاب وأناب ، يرحمه فيغفر له ، ويتقبل توبته ويحبه ، ومعنى الودود من أسمائه تعالى ، أنه يحب عباده المؤمنين ويحبونه ، فهو " فعول " بمعنى " فاعل " وبمعنى " مفعول " . { قَالُواْ يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ } أي : تضجروا من نصائحه ومواعظه لهم ، فقالوا : { مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ } وذلك لبغضهم لما يقول ، ونفرتهم عنه . { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً } أي : في نفسك لست من الكبار والرؤساء بل من المستضعفين ، { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ } أي : جماعتك وقبيلتك { لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } أي : ليس لك قدر في صدورنا ، ولا احترام في أنفسنا ، وإنما احترمنا قبيلتك ، بتركنا إياك . فـ { قَالَ } لهم مترققاً لهم : { يٰقَوْمِ أَرَهْطِيۤ أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ } أي : كيف تراعوني لأجل رهطي ، ولا تراعوني لله ، فصار رهطي أعز عليكم من الله . { وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } أي : نبذتم أمر الله وراء ظهوركم ، ولم تبالوا به ولا خفتم منه . { إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } لا يخفى عليه من أعمالكم مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، فسيجازيكم على ما عملتم أتم الجزاء . { وَ } لما أعيوه وعجز عنهم قال : { يٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ } أي : على حالتكم ودينكم . { إِنِّي عَٰمِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } ويحل عليه عذاب مقيم أنا أم أنتم ، وقد علموا ذلك حين وقع عليهم العذاب . { وَٱرْتَقِبُوۤاْ } ما يحل بي { إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } ما يحل بكم . { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } بإهلاك قوم شعيب { نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } لا تسمع لهم صوتاً ، ولا ترى منهم حركة { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ } أي : كأنهم ما أقاموا في ديارهم ، ولا تنعموا فيها حين أتاهم العذاب . { أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ } إذ أهلكها الله وأخزاها { كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } أي : قد اشتركت هاتان القبيلتان في السحق والبعد والهلاك . وشعيب عليه السلام كان يسمى خطيب الأنبياء ، لحسن مراجعته لقومه ، وفي قصته من الفوائد والعبر شيء كثير . منها : أن الكفار كما يعاقبون ويخاطبون بأصل الإسلام ، فكذلك بشرائعه وفروعه ، لأن شعيباً دعا قومه إلى التوحيد ، وإلى إيفاء المكيال والميزان ، وجعل الوعيد مرتباً على مجموع ذلك . ومنها : أن نقص المكاييل والموازين من كبائر الذنوب ، وتخشى العقوبة العاجلة على من تعاطى ذلك ، وأن ذلك من سرقة أموال الناس وإذا كان سرقتهم في المكاييل والموازين موجبة للوعيد ، فسرقتهم - على وجه القهر والغلبة - من باب أولى وأحرى . ومنها : أن الجزاء من جنس العمل ، فمن بخس أموال الناس ، يريد زيادة ماله ، عوقب بنقيض ذلك ، وكان سبباً لزوال الخير الذي عنده من الرزق لقوله : { إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } أي : فلا تسببوا إلى زواله بفعلكم . ومنها : أن على العبد أن يقنع بما آتاه الله ويقنع بالحلال عن الحرام وبالمكاسب المباحة عن المكاسب المحرمة ، وأن ذلك خير له لقوله : { بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ } ففي ذلك من البركة وزيادة الرزق ما ليس في التكالب على الأسباب المحرمة من المحق ، وضد البركة . ومنها : أن ذلك من لوازم الإيمان وآثاره ، فإنه رتب العمل به على وجود الإيمان ، فدلّ على أنه إذا لم يوجد العمل فالإيمان ناقص أو معدوم . ومنها : أن الصلاة لم تزل مشروعة للأنبياء المتقدمين ، وأنها من أفضل الأعمال ، حتى إنه متقرر عند الكفار فضلها ، وتقديمها على سائر الأعمال ، وأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وهي ميزان للإيمان وشرائعه ، فبإقامتها تكمل أحوال العبد ، وبعدم إقامتها تختل أحواله الدينية . ومنها : أن المال الذي يرزقه الله الإنسان - وإن كان الله قد خوله إياه - فليس له أن يصنع فيه ما يشاء ، فإنه أمانة عنده ، عليه أن يقيم حق الله فيه بأداء ما فيه من الحقوق ، والامتناع من المكاسب التي حرمها الله ورسوله ، لا كما يزعمه الكفار ومن أشبههم ، أن أموالهم لهم أن يصنعوا فيها ما يشاؤون ويختارون ، سواء وافق حكم الله ، أو خالفه . ومنها : أن من تكملة دعوة الداعي وتمامها أن يكون أول مبادر لما يأمر غيره به ، وأول منته عما ينهى غيره عنه ، كما قال شعيب عليه السلام : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } ولقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 - 3 ] . ومنها أن وظيفة الرسل وسنتهم وملتهم ، إرادة الإصلاح بحسب القدرة والإمكان ، فيأتون بتحصيل المصالح وتكميلها ، أو بتحصيل ما يقدر عليه منها ، وبدفع المفاسد وتقليلها ، ويراعون المصالح العامة على المصالح الخاصة . وحقيقة المصلحة هي التي تصلح بها أحوال العباد ، وتستقيم بها أمورهم الدينية والدنيوية . ومنها : أن من قام بما يقدر عليه من الإصلاح ، لم يكن ملوماً ولا مذموماً في عدم فعله ما لا يقدر عليه ، فعلى العبد أن يقيم من الإصلاح في نفسه وفي غيره ما يقدر عليه . ومنها : أن العبد ينبغي له أن لا يتكل على نفسه طرفة عين ، بل لا يزال مستعيناً بربه متوكلاً عليه ، سائلاً له التوفيق وإذا حصل له شيء من التوفيق ، فلينسبه لموليه ومسديه ، ولا يعجب بنفسه لقوله : { وَمَا تَوْفِيقِيۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } . ومنها الترهيب بأخذات الأمم وما جرى عليهم ، وأنه ينبغي أن تذكر القصص التي فيها إيقاع العقوبات بالمجرمين في سياق الوعظ والزجر . كما أنه ينبغي ذكر ما أكرم الله به أهل التقوى عند الترغيب والحث على التقوى . ومنها : أن التائب من الذنب كما يسمح له عن ذنبه ، ويعفى عنه فإن الله تعالى يحبه ويوده ، ولا عبرة بقول من يقول : " إن التائب إذا تاب ، فحسبه أن يغفر له ، ويعود عليه العفو ، وأما عود الود والحب فإنه لا يعود " فإن الله قال : { وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } . ومنها : أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة ، قد يعلمون بعضها وقد لا يعلمون شيئاً منها ، وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم ، أو أهل وطنهم الكفار ، كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه ، وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين ، لا بأس بالسعي فيها ، بل ربما تعين ذلك ، لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان . فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية ، لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية ، وتحرص على إبادتها ، وجعلهم عمَلَةً وخَدَماً لهم . نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين وهم الحكام فهو المتعين ، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة ، والله أعلم .