Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 16-21)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما ذكر قصة زكريا ويحيى ، وكانت من الآيات العجيبة ، انتقل منها إلى ما هو أعجب منها ، تدريجاً من الأدنى إلى الأعلى فقال : { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ } الكريم { مَرْيَمَ } عليها السلام ، وهذا من أعظم فضائلها ، أن تذكر في الكتاب العظيم ، الذي يتلوه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ، تذكر فيه بأحسن الذكر ، وأفضل الثناء ، جزاء لعملها الفاضل ، وسعيها الكامل ، أي : واذكر في الكتاب مريم ، في حالها الحسنة ، حين { ٱنتَبَذَتْ } أي : تباعدت عن أهلها { مَكَاناً شَرْقِياً } أي : مما يلي الشرق عنهم ، { فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً } أي : ستراً ومانعاً ، وهذا التباعد منها ، واتخاذ الحجاب ، لتعتزل ، وتنفرد بعبادة ربها ، وتقنت له في حالة الإخلاص والخضوع والذل لله تعالى ، وذلك امتثال منها لقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَـٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَـٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَـٰلَمِينَ * يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسْجُدِي وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } [ آل عمران : 42 - 43 ] وقوله { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } وهو : جبريل عليه السلام { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } أي : كاملاً من الرجال ، في صورة جميلة ، وهيئة حسنة ، لا عيب فيه ولا نقص ، لكونها لا تحتمل رؤيته على ما هو عليه ، فلما رأته في هذه الحال ، وهي معتزلة عن أهلها ، منفردة عن الناس ، قد اتخذت الحجاب عن أعز الناس عليها وهم أهلها ، خافت أن يكون رجلاً قد تعرض لها بسوء ، وطمع فيها ، فاعتصمت بربها واستعاذت منه فقالت له : { إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ } أي ألتجئ به وأعتصم برحمته ، أن تنالني بسوء ، { إِن كُنتَ تَقِيّاً } أي : إن كنت تخاف الله ، وتعمل بتقواه ، فاترك التعرض لي ، فجمعت بين الاعتصام بربها ، وبين تخويفه وترهيبه ، وأمره بلزوم التقوى ، وهي في تلك الحالة الخالية ، والشباب ، والبعد عن الناس ، وهو في ذلك الجمال الباهر ، والبشرية الكاملة السوية ، ولم ينطق لها بسوء ، أو يتعرض لها ، وإنما ذلك خوف منها ، وهذا أبلغ ما يكون من العفة ، والبعد عن الشر وأسبابه ، وهذه العفة - خصوصاً مع اجتماع الدواعي ، وعدم المانع - من أفضل الأعمال . ولذلك أثنى الله عليها فقال { وَمَرْيَمَ ٱبْنَتَ عِمْرَانَ ٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ التحريم : 12 ] { وَٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَٱبْنَهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 91 ] فأعاضها الله بعفتها ، ولداً من آيات الله ، ورسولاً من رسله ، فلما رأى جبريل منها الروع والخيفة ، قال { إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ } أي : إنما وظيفتي وشغلي تنفيذ رسالة ربي فيك { لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } وهذه بشارة عظيمة بالولد وزكائه ، فإن الزكاء يستلزم تطهيره من الخصال الذميمة ، واتصافه بالخصال الحميدة ، فتعجبت من وجود الولد من غير أب ، فقالت : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } والولد لا يوجد إلا بذلك ؟ ! ! { قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } تدل على كمال قدرة الله تعالى ، وعلى أن الأسباب جميعها ، لا تستقل بالتأثير ، وإنما تأثيرها بتقدير الله ، فيري عباده خرق العوائد في بعض الأسباب العادية ، لئلا يقفوا مع الأسباب ، ويقطعوا النظر عن مقدرها ومسببها { وَرَحْمَةً مِّنَّا } أي : ولنجعله رحمةً منا به وبوالدته ، وبالناس . أما رحمة الله به ، فلما خصه الله بوحيه ومَنَّ عليه بما منَّ به على أولي العزم ، وأما رحمته بوالدته ، فلما حصل لها من الفخر ، والثناء الحسن ، والمنافع العظيمة . وأما رحمته بالناس ، فإن أكبر نعمه عليهم ، أن بعث فيهم رسولاً ، يتلو عليهم آياته ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، فيؤمنون به ويطيعونه ، وتحصل لهم سعادة الدنيا والآخرة ، { وَكَانَ } أي وجود عيسى عليه السلام على هذه الحالة { أَمْراً مَّقْضِيّاً } قضاءً سابقاً ، فلا بد من نفوذ هذا التقدير والقضاء ، فنفخ جبريل عليه السلام في جيبها .