Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 51-73)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } إلى آخر هذه القصة ، وهو قوله : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ ٱلْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلاَة وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَـاةِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ } لما ذكر تعالى موسى ومحمداً صلى الله عليهما وسلم وكتابيهما ، قال : { وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ } أي : من قبل إرسال موسى ومحمد ونزول كتابيهما ، فأراه الله ملكوت السماوات والأرض ، وأعطاه من الرشد ، الذي كمل به نفسه ، ودعا الناس إليه ، ما لم يؤته أحداً من العالمين غير محمد ، وأضاف الرشد إليه ، لكونه رشداً ، بحسب حاله وعلو مرتبته ، وإلا فكل مؤمن له من الرشد بحسب ما معه من الإيمان . { وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } أي : أعطيناه رشده ، واختصصناه بالرسالة والخلة ، واصطفيناه في الدنيا والآخرة ، لعلمنا أنه أهل لذلك ، وكفء له ، لزكائه وذكائه ، ولهذا ذكر محاجته لقومه ، ونهيهم عن الشرك ، وتكسير الأصنام ، وإلزامهم بالحجة ، فقال : { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ } التي مثلتموها ، ونحتُّموها بأيديكم ، على صور بعض المخلوقات { ٱلَّتِيۤ أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } مقيمون على عبادتها ، ملازمون لذلك ، فما هي ؟ وأي فضيلة ثبتت لها ؟ وأين عقولكم التي ذهبت حتى أفنيتم أوقاتكم بعبادتها ؟ والحال أنكم مثلتموها ، ونحتموها بأيديكم ، فهذا من أكبر العجائب ، تعبدون ما تنحتون . فأجابوا بغير حجة ، جواب العاجز ، الذي ليس بيده أدنى شبهة ، فقالوا : { وَجَدْنَآ آبَآءَنَا } كذلك يفعلون ، فسلكنا سبيلهم ، وتبعناهم على عبادتها ، ومن المعلوم أن فعل أحد من الخلق سوى الرسل ليس بحجة ، ولا تجوز به القدوة ، خصوصاً في أصل الدين ، وتوحيد رب العالمين ، ولهذا قال لهم إبراهيم مضللاً للجميع : { قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي : ضلال بين واضح ، وأي ضلال ، أبلغ من ضلالهم في الشرك ، وترك التوحيد ؟ ! ! أي : فليس ما قلتم ، يصلح للتمسك به ، وقد اشتركتم وإياهم في الضلال الواضح ، البيِّن لكل أحد . { قَالُوۤاْ } على وجه الاستغراب لقوله ، والاستعظام لما قال ، وكيف بادأهم بتسفيههم ، وتسفيه آبائهم : { أَجِئْتَنَا بِٱلْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ ٱللاَّعِبِينَ } أي : هذا القول الذي قلته ، والذي جئتنا به ، هل هو حق وجد ؟ أم كلامك لنا ، كلام لاعب مستهزئ ، لا يدري ما يقول ؟ وهذا الذي أرادوا ، وإنما رددوا الكلام بين الأمرين ، لأنهم نزلوه منزلة المتقرر المعلوم عند كل أحد ، أن الكلام الذي جاء به إبراهيم كلام سفيه لا يعقل ما يقول ، فرد عليهم إبراهيم رداً بيَّن به وجه سفههم ، وقلة عقولهم فقال : { بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ٱلَّذِي فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ مِّنَ ٱلشَّاهِدِينَ } فجمع لهم بين الدليل العقلي ، والدليل السمعي . أما الدليل العقلي ، فإنه قد علم كل أحد حتى هؤلاء الذين جادلهم إبراهيم ، أن الله وحده الخالق لجميع المخلوقات ، من بني آدم ، والملائكة ، والجن ، والبهائم ، والسماوات ، والأرض ، المدبر لهن بجميع أنواع التدبير ، فيكون كل مخلوق مفطوراً مدبَّراً متصرفاً فيه ، ودخل في ذلك جميع ما عبد من دون الله . أفيليق عند مَن له أدنى مسكة من عقل وتمييز ، أن يعبد مخلوقاً متصرفاً فيه ، لا يملك نفعاً ، ولا ضراً ، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ، ويدع عبادة الخالق الرازق المدبر ؟ أما الدليل السمعي ، فهو المنقول عن الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فإن ما جاؤوا به معصوم ، لا يغلط ولا يخبر بغير الحق ، ومن أنواع هذا القسم ، شهادة أحد من الرسل على ذلك فلهذا قال إبراهيم : { وَأَنَاْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ } أي : أن الله وحده المعبود وأن عبادة ما سواه باطل { مِّنَ ٱلشَّاهِدِينَ } وأي شهادة بعد شهادة الله أعلى من شهادة الرسل ؟ خصوصاً أولي العزم منهم ، خصوصاً خليل الرحمن . ولما بين أن أصنامهم ليس لها من التدبير شيء أراد أن يريهم بالفعل عجزها وعدم انتصارها وليكيد كيداً يحصل به إقرارهم بذلك فلهذا قال : { وَتَٱللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } أي : أكسرها على وجه الكيد { بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } عنها إلى عيد من أعيادهم ، فلما تولوا مدبرين ، ذهب إليها بخفية { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً } أي كسراً وقِطَعاً ، وكانت مجموعة في بيت واحد ، فكسرها كلها ، { إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ } أي : إلا صنمهم الكبير ، فإنه تركه لمقصد سيبينه ، وتأمل هذا الاحتراز العجيب ، فإن كل ممقوت عند الله ، لا يطلق عليه ألفاظ التعظيم ، إلا على وجه إضافته لأصحابه ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كتب إلى ملوك الأرض المشركين يقول : " إلى عظيم الفرس " " إلى عظيم الروم " ونحو ذلك ، ولم يقل " إلى العظيم " ، وهنا قال تعالى : { إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ } ولم يقل : " كبيرا من أصنامهم " فهذا ينبغي التنبيه له ، والاحتراز من تعظيم ما حقره الله ، إلا إذا أضيف إلى من عظمه . وقوله : { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } أي : ترك إبراهيم تكسير صنمهم هذا لأجل أن يرجعوا إليه ، ويستملوا حجته ، ويلتفتوا إليها ، ولا يعرضوا عنها ، ولهذا قال في آخرها : { فَرَجَعُوۤاْ إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ } . فحين رأوا ما حل بأصنامهم من الإهانة والخزي { قَالُواْ مَن فَعَلَ هَـٰذَا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ ٱلظَّالِمِينَ } فرموا إبراهيم بالظلم الذي هم أولى به حيث كسرها ولم يدروا أن تكسيره لها من أفضل مناقبه ومن عدله وتوحيده ، وإنما الظالم من اتخذها آلهة ، وقد رأى ما يفعل بها { قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ } أي : يعيبهم ويذمهم ، ومن هذا شأنه لا بد أن يكون هو الذي كسرها أو أن بعضهم سمعه يذكر أنه سيكيدها { يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } فلما تحققوا أنه إبراهيم { قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ } أي : بإبراهيم { عَلَىٰ أَعْيُنِ ٱلنَّاسِ } أي بمرأى منهم ومسمع { لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } أي : يحضرون ما يصنع بمن كسر آلهتهم ، وهذا الذي أراد إبراهيم وقصد أن يكون بيان الحق بمشهد من الناس ليشاهدوا الحق وتقوم عليهم الحجة ، كما قال موسى حين واعد فرعون : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى } [ طه : 59 ] فحين حضر الناس وأحضر إبراهيم قالوا له : { أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَـٰذَا } أي : التكسير { بِآلِهَتِنَا يٰإِبْرَاهِيمُ } ؟ وهذا استفهام تقرير ، أي : فما الذي جرأك ، وما الذي أوجب لك الإقدام على هذا الأمر ؟ . فقال إبراهيم والناس شاهدون : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا } أي : كسرها غضباً عليها ، لما عبدت معه ، وأراد أن تكون العبادة منكم لصنمكم الكبير وحده ، وهذا الكلام من إبراهيم ، المقصد منه إلزام الخصم وإقامة الحجة عليه ، ولهذا قال : { فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } وأراد الأصنام المكسرة ، اسألوها لم كسرت ؟ والصنم الذي لم يكسر ، اسألوه لأي شيء كسرها ، إن كان عندهم نطق ، فسيجيبونكم إلى ذلك ، وأنا وأنتم ، وكل أحد يدري أنها لا تنطق ولا تتكلم ، ولا تنفع ولا تضر ، بل ولا تنصر نفسها ممن يريدها بأذى . { فَرَجَعُوۤاْ إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ } أي : ثابت عليهم عقولهم ، ورجعت إليهم أحلامهم ، وعلموا أنهم ضالون في عبادتها ، وأقروا على أنفسهم بالظلم والشرك ، { فَقَالُوۤاْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ ٱلظَّالِمُونَ } فحصل بذلك المقصود ، ولزمتهم الحجة بإقرارهم أن ما هم عليه باطل ، وأن فعلهم كفر وظلم ، ولكن لم يستمروا على هذه الحالة ، ولكن { نُكِسُواْ عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ } أي : انقلب الأمر عليهم ، وانتكست عقولهم ، وضلت أحلامهم ، فقالوا لإبراهيم : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـٰؤُلاۤءِ يَنطِقُونَ } فكيف تهكَّمُ بنا وتستهزئ بنا وتأمرنا أن نسألها وأنت تعلم أنها لا تنطق ؟ . فقال إبراهيم - موبخاً لهم ومعلناً بشركهم على رؤوس الأشهاد ، ومبيناً عدم استحقاق آلهتهم للعبادة - : { أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ } فلا نفع ولا دفع ، { أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } أي : ما أضلكم وأخسر صفقتكم ، وما أخسكم ، أنتم وما عبدتم من دون الله ، إن كنتم تعقلون عرفتم هذه الحال ، فلما عدمتم العقل ، وارتكبتم الجهل والضلال على بصيرة ، صارت البهائم أحسن حالاً منكم . فحينئذ لما أفحمهم ، ولم يبينوا حجة ، استعملوا قوتهم في معاقبته ، فـ { قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوۤاْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } أي : اقتلوه أشنع القتلات ، بالإحراق ، غضباً لآلهتكم ، ونصرة لها . فتعساً لهم تعساً ، حيث عبدوا من أقروا أنه يحتاج إلى نصرهم ، واتخذوه إلهاً ، فانتصر الله لخليله لما ألقوه في النار وقال لها : { كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } فكانت عليه برداً وسلاماً ، لم ينله فيها أذى ، ولا أحس بمكروه . { وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً } حيث عزموا على إحراقه ، { فَجَعَلْنَاهُمُ ٱلأَخْسَرِينَ } أي : في الدنيا والآخرة ، كما جعل الله خليله وأتباعه هم الرابحين المفلحين . { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً } وذلك أنه لم يؤمن به من قومه إلا لوط عليه السلام ، قيل : إنه ابن أخيه ، فنجاه الله ، وهاجر { إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } أي : الشام ، فغادر قومه في " بابل " من أرض العراق ، { وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [ العنكبوت : 26 ] ومن بركة الشام ، أن كثيراً من الأنبياء كانوا فيها ، وأن الله اختارها مهاجراً لخليله ، وفيها أحد بيوته الثلاثة المقدسة ، وهو بيت المقدس . { وَوَهَبْنَا لَهُ } حين اعتزل قومه { إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } ابن إسحاق { نَافِلَةً } بعدما كبر ، وكانت زوجته عاقراً ، فبشرته الملائكة بإسحاق ، { وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] ويعقوب هو إسرائيل ، الذي كانت منه الأمة العظيمة ، وإسماعيل بن إبراهيم ، الذي كانت منه الأمة الفاضلة العربية ، ومن ذريته ، سيد الأولين والآخرين . { وَكُلاًّ } من إبراهيم وإسحاق ويعقوب { جَعَلْنَا صَالِحِينَ } أي : قائمين بحقوقه وحقوق عباده ، ومن صلاحهم ، أنه جعلهم أئمة يهدون بأمره ، وهذا من أكبر نعم الله على عبده أن يكون إماماً يهتدي به المهتدون ، ويمشي خلفه السالكون ، وذلك لما صبروا ، وكانوا بآيات الله يوقنون . وقوله : { يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } أي : يهدون الناس بديننا ، لا يأمرون بأهواء أنفسهم ، بل بأمر الله ودينه ، واتباع مرضاته ، ولا يكون العبد إماماً حتى يدعو إلى أمر الله . { وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ ٱلْخَيْرَاتِ } يفعلونها ويدعون الناس إليها ، وهذا شامل لجميع الخيرات ، من حقوق الله وحقوق العباد . { وَإِقَامَ ٱلصَّلاَة وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَـاةِ } هذا من باب عطف الخاص على العام ، لشرف هاتين العبادتين وفضلهما ، ولأن من كملهما كما أمر ، كان قائماً بدينه ، ومن ضيعهما ، كان لما سواهما أضيع ، ولأن الصلاة أفضل الأعمال ، التي فيها حقه ، والزكاة أفضل الأعمال ، التي فيها الإحسان لخلقه . { وَكَانُواْ لَنَا } أي : لا لغيرنا { عَابِدِينَ } أي : مديمين على العبادات القلبية والقولية والبدنية في أكثر أوقاتهم ، فاستحقوا أن تكون العبادة وصفهم ، فاتصفوا بما أمر الله به الخلق ، وخلقهم لأجله .