Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 26, Ayat: 10-68)
Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ٱئْتِ ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } إلى آخر القصة قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } أعاد الباري تعالى قصة موسى وثناها في القرآن ما لم يثن غيرها ، لكونها مشتملة على حكم عظيمة وعبر ، وفيها نبأه مع الظالمين والمؤمنين ، وهو صاحب الشريعة الكبرى ، وصاحب التوراة أفضل الكتب بعد القرآن ، فقال : واذكر حالة موسى الفاضلة ، وقت نداء الله إياه ، حين كلمه ونبأه وأرسله ، فقال : { أَنِ ٱئْتِ ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } الذين تكبروا في الأرض ، وعلوا على أهلها وادعى كبيرهم الربوبية ، { قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ } أي : قل لهم ، بلين قول ، ولطف عبارة { أَلا يَتَّقُونَ } الله الذي خلقكم ورزقكم ، فتتركون ما أنتم عليه من الكفر . فقال موسى عليه السلام ، معتذراً من ربه ، ومبيناً لعذره ، وسائلاً له المعونة على هذا الحمل الثقيل : { قَالَ رَبِّ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي } . فقال : { قَالَ رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِيۤ أَمْرِي * وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي * وَٱجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي } [ طه : 25 - 30 ] { فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ } فأجاب الله طلبه ، ونبأ أخاه هارون كما نبأه { فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً } [ القصص : 34 ] أي معاوناً لي على أمري أن يصدقوني . { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ } أي : في قتل القبطي { فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } . { قَالَ كَلاَّ } أي : لا يتمكنون من قتلك ، فإنا سنجعل لكما سلطاناً ، فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون . ولهذا لم يتمكن فرعون من قتل موسى ، مع منابذته له غاية المنابذة ، وتسفيه رأيه ، وتضليله وقومه ، { فَٱذْهَبَا بِآيَاتِنَآ } الدالة على صدقكما ، وصحة ما جئتما به ، { إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ } أحفظكما وأكلؤكما ، { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي أرسلنا إليك ، لتؤمن به وبنا ، وتنقاد لعبادته ، وتذعن لتوحيده ، { أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } فكف عنهم عذابك ، وارفع عنهم يدك ليعبدوا ربهم ويقيموا أمر دينهم . فلما جاءا فرعون وقالا له ما قال الله لهما ، لم يؤمن فرعون ولم يلن ، وجعل يعارض موسى ، فـ { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } أي : ألم ننعم عليك ، ونقم بتربيتك ، منذ كنت وليدا في مهدك ، ولم تزل كذلك . { وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِي فَعَلْتَ } وهي قتل موسى للقبطي ، حين استغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه { فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ } الآية [ القصص : 15 ] . { وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } أي : وأنت إذ ذاك طريقك طريقنا ، وسبيلك سبيلنا ، في الكفر ، فأقر على نفسه بالكفر من حيث لا يدري . فقال موسى : { قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ } أي : عن غير كفر ، وإنما كان عن ضلال وسفه ، فاستغفرت ربي فغفر لي ، { فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ } حين تراجعتم بقتلي ، فهربت إلى مدين ، ومكثت سنين ، ثم جئتكم . { فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } . فالحاصل أن اعتراض فرعون على موسى ، اعتراض جاهل أو متجاهل ، فإنه جعل المانع من كونه رسولاً ، أن جرى منه القتل ، فبين له موسى ، أن قتله كان على وجه الضلال والخطأ ، الذي لم يقصد نفس القتل ، وأن فضل الله تعالى غير ممنوع منه أحد ، فلم منعتم ما منحني الله ، من الحكم والرسالة ؟ بقي عليك يا فرعون إدلاؤك بقولك : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } وعند التحقيق ، يتبين أن لا منة لك فيها ، ولهذا قال موسى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : تدلي عليَّ بهذه المنة لأنك سخرت بني إسرائيل ، وجعلتهم لك بمنزلة العبيد ، وأنا قد أسلمتني من تعبيدك وتسخيرك ، وجعلتها علي نعمة ، فعند التصور ، يتبين أن الحقيقة ، أنك ظلمت هذا الشعب الفاضل ، وعذبتهم ، وسخرتهم بأعمالك ، وأنا قد سلمني الله من أذاك ، مع وصول أذاك لقومي ، فما هذه المنة التي تبت بها وتدلي بها ؟ . { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } وهذا إنكار منه لربه ، ظلماً وعلواً ، مع تيقن صحة ما دعاه إليه موسى ، قال : { رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ } . أي : الذي خلق العالم العلوي والسفلي ، ودبره بأنواع التدبير ، ورباه بأنواع التربية . ومن جملة ذلك ، أنتم أيها المخاطبون ، فكيف تنكرون خالق المخلوقات ، وفاطر الأرض والسماوات { إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } فقال فرعون متجرهماً ، ومعجباً لقومه : { أَلاَ تَسْتَمِعُونَ } ما يقول هذا الرجل ، فقال موسى : { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ } تعجبتم أم لا ، استكبرتم أم أذعنتم . فقال فرعون معانداً للحق ، قادحاً بمن جاء به : { إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } حيث قال خلاف ما نحن عليه ، وخالفنا فيما ذهبنا إليه ، فالعقل عنده وأهل العقل ، من زعموا أنهم لم يخلقوا ، أو أن السماوات والأرض ما زالتا موجودتين من غير موجد ، وأنهم بأنفسهم خلقوا من غير خالق ، والعقل عنده ، أن يعبد المخلوق الناقص من جميع الوجوه ، والجنون عنده ، أن يثبت الرب الخالق للعالم العلوي والسفلي ، والمنعم بالنعم الظاهرة والباطنة ، ويدعو إلى عبادته ، وزين لقومه هذا القول ، وكانوا سفهاء الأحلام ، خفيفي العقول { فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } [ الزخرف : 54 ] فقال موسى عليه السلام ، مجيباً لإنكار فرعون وتعطيله لرب العالمين : { رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ } من سائر المخلوقات { إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } فقد أديت لكم من البيان والتبيين ، ما يفهمه كل من له أدنى مسكة من عقل ، فما بالكم تتجاهلون فيما أخاطبكم به ؟ وفيه إيماء وتنبيه إلى أن الذي رميتم به موسى من الجنون ، أنه داؤكم فرميتم أزكى الخلق عقلاً ، وأكملهم علماً ، بالجنون ، والحال أنكم أنتم المجانين ، حيث ذهبت عقولكم لإنكار أظهر الموجودات ، خالق الأرض والسماوات وما بينهما ، فإذا جحدتموه ، فأي شيء تثبتون ؟ وإذا جهلتموه ، فأي شيء تعلمون ؟ وإذا لم تؤمنوا به وبآياته ، فبأي شيء - بعد الله وآياته - تؤمنون ؟ تالله ، إن المجانين الذين بمنزلة البهائم ، أعقل منكم ، وإن الأنعام السارحة ، أهدى منكم . فلما خنقت فرعون الحجة ، وعجزت قدرته وبيانه عن المعارضة { قَالَ } متوعداً لموسى بسلطانه { لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ } زعم - قبحه الله - أنه قد طمع في إضلال موسى ، وأن لا يتخذ إلهاً غيره ، وإلا فقد تقرر أنه هو ومن معه ، على بصيرة من أمرهم . فقال له موسى : { أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ } أي : آية ظاهرة جلية ، على صحة ما جئت به ، من خوارق العادات . { قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ * فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ } أي : ذكر الحيات ، { مُّبِينٌ } ظاهر لكل أحد ، لا خيال ولا تشبيه . { وَنَزَعَ يَدَهُ } من جيبه { فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } أي : لها نور عظيم ، لا نقص فيه لمن نظر إليها . { قَالَ } فرعون { لِلْمَلإِ حَوْلَهُ } معارضاً للحق ومن جاء به : { إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ } موَّهَ عليهم ، لعلمه بضعف عقولهم ، أن هذا من جنس ما يأتي به السحرة ، لأنه من المتقرر عندهم ، أن السحرة يأتون من العجائب بما لا يقدر عليه الناس ، وخَوَّفَهُم أن قصده بهذا السحر ، التوصل إلى إخراجهم من وطنهم ، ليجدوا ويجتهدوا في معاداة من يريد إجلاءهم عن أولادهم وديارهم ، { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } أن نفعل به ؟ { قَالُوۤاْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } أي : أخرهما { وَٱبْعَثْ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } جامعين للناس { يَأْتُوكَ } أولئك الحاشرون { بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } أي : ابعث في جميع مدنك ، التي هي مقر العلم ومعدن السحر ، من يجمع لك كل ساحر ماهر ، عليم في سحره ، فإن الساحر يُقابلُ بسحرٍ من جنس سحره . وهذا من لطف الله أن يري العباد بطلان ما موه به فرعون الجاهل الضال المضل ، أن ما جاء به موسى سحر ، قيضهم أن جمعوا أهل المهارة بالسحر ، لينعقد المجلس عن حضرة الخلق العظيم ، فيظهر الحق على الباطل ، ويقر أهل العلم وأهل الصناعة بصحة ما جاء به موسى ، وأنه ليس بسحر ، فعمل فرعون برأيهم ، فأرسل في المدائن من يجمع السحرة ، واجتهد في ذلك وجد . { فَجُمِعَ ٱلسَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } قد واعدهم إياه موسى ، وهو يوم الزينة ، الذي يتفرغون فيه من أشغالهم . { وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ } أي : نودي بعموم الناس بالاجتماع في ذلك اليوم الموعود { لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ ٱلسَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ ٱلْغَالِبِينَ } أي : قالوا للناس : اجتمعوا لتنظروا غلبة السحرة لموسى ، وأنهم ماهرون في صناعتهم ، فنتبعهم ونعظمهم ، ونعرف فضيلة علم السحر ، فلو وفقوا للحق ، لقالوا : لعلنا نتبع المحق منهم ، ولنعرف الصواب ، فلذلك ما أفاد فيهم ذلك ، إلا قيام الحجة عليهم . { فَلَمَّا جَآءَ ٱلسَّحَرَةُ } ووصلوا لفرعون قالوا له : { أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَالِبِينَ } لموسى ؟ { قَالَ نَعَمْ } لكم أجر وثواب { وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } عندي ، وعدهم الأجر والقربة منه ، ليزداد نشاطهم ، ويأتوا بكل مقدورهم في معارضة ما جاء به موسى . فلما اجتمعوا للموعد ، هم وموسى ، وأهل مصر ، وعظهم موسى وذكرهم ، وقال : { وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ ٱفْتَرَىٰ } [ طه : 61 ] فتنازعوا وتخاصموا ، ثم شجعهم فرعون ، وشجع بعضهم بعضاً . فـ { قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ } أي : ألقوا كل ما في خواطركم إلقاؤه ، ولم يقيده بشيء دون شيء ، لجزمه ببطلان ما جاؤوا به من معارضة الحق . { فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ } فإذا هي حيات تسعى ، وسحروا بذلك أعين الناس ، { وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ ٱلْغَالِبُونَ } فاستعانوا بعزة عبدٍ ضعيفٍ ، عاجز من كل وجه ، إلا أنه قد تجبر ، وحصل له صورة ملك وجنود ، فغرتهم تلك الأبهة ، ولم تنفذ بصائرهم إلى حقيقة الأمر ، أو أن هذا قَسَمٌ منهم بعزة فرعون ، والمقسم عليه أنهم غالبون . { فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ } تبتلع وتأخذ { مَا يَأْفِكُونَ } فالتفت جميع ما ألقوا من الحبال والعصي ، لأنها إفك وكذب وزور ، وذلك كله باطل ، لا يقوم للحق ولا يقاومه . فلما رأى السحرة هذه الآية العظيمة ، تيقنوا - لعلمهم - أن هذا ليس بسحر ، وإنما هو آية من آيات الله ، ومعجزة تنبئ بصدق موسى ، وصحة ما جاء به . { فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } لربهم . { قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } . وانقمع الباطل في ذلك المجمع ، وأقر رؤساؤه ببطلانه ، ووضح الحق وظهر ، حتى رأى ذلك الناظرون بأبصارهم ، ولكن أبى فرعون إلا عتواً وضلالاً ، وتمادياً في غيه وعناداً ، فقال للسحرة : { آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } يتعجب ، ويعجب قومه من جراءتهم عليه ، وإقدامهم على الإيمان من غير إذنه ومؤامرته . { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ } هذا ، وهو الذي جمع السحرة وملأه ، الذين أشاروا عليه بجمعهم من مدائنهم ، وقد علموا أنهم ما اجتمعوا بموسى ولا رأوه قبل ذلك ، وأنهم جاؤوا من السحر بما يحير الناظرين ويهيلهم ، ومع ذلك ، فراج عليهم هذا القول ، الذي هم بأنفسهم وقفوا على بطلانه ، فلا يستنكر على أهل هذه العقول ، أن لا يؤمنوا بالحق الواضح والآيات الباهرة ، لأنهم لو قال لهم فرعون عن أي شيء كان ، إنه على خلاف حقيقته ، صدقوه . ثم توعد السحرة فقال : { لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ } أي : اليد اليمنى والرجل اليسرى ، كما يفعل بالمفسد في الأرض ، { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } لتختزوا ، وتذلوا . فقال السحرة - حين وجدوا حلاوة الإيمان وذاقوا لذته - : { لاَ ضَيْرَ } أي : لا نبالي بما توعدتنا به { إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ } من الكفر والسحر وغيرهما { أَن كُنَّآ أَوَّلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } بموسى ، من هؤلاء الجنود ، فثبتهم الله وصبَّرهم . فيحتمل أن فرعون فعل بهم ما توعدهم به ، لسلطانه ، واقتداره إذ ذاك ، ويحتمل أن الله منعه منهم ، ثم لم يزل فرعون وقومه مستمرين على كفرهم ، يأتيهم موسى بالآيات البينات ، وكلما جاءتهم آية ، وبلغت منهم كل مبلغ ، وعدوا موسى وعاهدوه ، لئن كشف الله عنهم ، ليؤمنن به ، وليرسلن معه بني إسرائيل ، فيكشفه الله ، ثم ينكثون ، فلما يئس موسى من إيمانهم ، وحقت عليهم كلمة العذاب ، وآن لبني إسرائيل أن ينجيهم من أسرهم ، ويمكن لهم في الأرض ، أوحى الله إلى موسى : { أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِيۤ } أي : اخرج ببني إسرائيل أول الليل ، ليتمادوا ويتمهلوا في ذهابهم . { إِنَّكُم مّتَّبَعُونَ } أي : سيتبعكم فرعون وجنوده . ووقع كما أخبر ، فإنهم لما أصبحوا ، وإذا بنو إسرائيل قد سروا كلهم مع موسى . { فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } يجمعون الناس ، ليوقع ببني إسرائيل ، ويقول مشجعاً لقومه : { إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ } أي : بني إسرائيل { لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ } ونريد أن ننفذ غيظنا في هؤلاء العبيد ، الذين أبِقُوا منا . { وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ } أي : الحذر على الجميع منهم ، وهم أعداء للجميع ، والمصلحة مشتركة ، فخرج فرعون وجنوده في جيش عظيم ، ونفير عام ، لم يتخلف منهم سوى أهل الأعذار ، الذين منعهم العجز . قال الله تعالى : { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } أي : بساتين مصر وجناتها الفائقة ، وعيونها المتدفقة ، وزروع قد ملأت أراضيهم ، وعمرت بها حاضرتهم وبواديهم . { وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } يعجب الناظرين ، ويلهي المتأملين ، تمتعوا به دهراً طويلاً وقضوا بلذته وشهواته عمراً مديداً ، على الكفر والفساد ، والتكبر على العباد والتيه العظيم . { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا } أي : هذه البساتين والعيون ، والزروع ، والمقام الكريم ، { بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } الذين جعلوهم من قبل عبيدهم ، وسخروا في أعمالهم الشاقة ، فسبحان من يؤتي الملك من يشاء ، وينزعه ممن يشاء ، ويعز من يشاء بطاعته ، ويذل من يشاء بمعصيته . { فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ } أي : اتبع قوم فرعون قوم موسى ، وقت شروق الشمس ، وساقوا خلفهم محثين ، على غيظ وحنق قادرين . { فَلَمَّا تَرَاءَى ٱلْجَمْعَانِ } أي : رأى كل منهما صاحبه ، { قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ } شاكين لموسى وحزنين : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } فـ { قَالَ } موسى مثبتاً لهم ، ومخبراً لهم بوعد ربه الصادق : { كَلاَّ } أي : ليس الأمر كما ذكرتم ، أنكم مدركون ، { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } لما فيه نجاتي ونجاتكم ، { فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ } فضربه { فَٱنفَلَقَ } اثني عشر طريقاً { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ } أي : الجبل { ٱلْعَظِيمِ } فدخله موسى وقومه . { وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ } في ذلك المكان { ٱلآخَرِينَ } أي : فرعون وقومه ، قربناهم ، وأدخلناهم في ذلك الطريق ، الذي سلك منه موسى وقومه . { وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ } استكملوا خارجين ، لم يتخلف منهم أحد . { ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلآخَرِينَ } لم يتخلف منهم عن الغرق أحد ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } عظيمة على صدق ما جاء به موسى عليه السلام ، وبطلان ما عليه فرعون وقومه ، { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } مع هذه الآيات المقتضية للإيمان ، لفساد قلوبكم ، { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } بعزته أهلك الكافرين المكذبين ، وبرحمته نجى موسى ، ومن معه أجمعين .