Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 27, Ayat: 15-44)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } إلى آخر القصة . يذكر في هذا القرآن ، وينوه بمنته على داود وسليمان ابنه ، بالعلم الواسع الكثير ، بدليل التنكير ، كما قال تعالى : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي ٱلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ ٱلْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } الآية [ الأنبياء : 78 - 79 ] . { وَقَالاَ } شاكرين لربهما منته الكبرى بتعليمهما : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } فحمدا الله على جعلهما من المؤمنين ، أهل السعادة ، وأنهما كانا من خواصهم . ولا شك أن المؤمنين أربع درجات : الصالحون ، ثم فوقهم الشهداء ، ثم فوقهم الصديقون ، ثم فوقهم الأنبياء ، وداود وسليمان ، من خواص الرسل ، وإن كانوا دون درجة أولي العزم [ الخمسة ] ، لكنهم من جملة الرسل الفضلاء الكرام ، الذين نوه الله بذكرهم ، ومدحهم في كتابه مدحاً عظيماً ، فحمدوا الله على بلوغ هذه المنزلة ، وهذا عنوان سعادة العبد ، أن يكون شاكراً لله على نعمه الدينية والدنيوية ، وأن يرى جميع النعم من ربه ، فلا يفخر بها ولا يعجب بها ، بل يرى أنها تستحق عليه شكراً كثيراً ، فلما مدحهما مشتركين ، خص سليمان بما خصه به ، لكون الله أعطاه ملكاً عظيماً ، وصار له من الماجريات ما لم يكن لأبيه ، صلى الله عليهما وسلم ، فقال : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } أي : ورث علمه ونبوته ، فانضم علم أبيه إلى علمه ، فلعله تعلم من أبيه ما عنده من العلم ، مع ما كان عليه من العلم وقت أبيه ، كما تقدم من قوله ففهمناها سليمان ، وقال شكراً لله ، وتبجحاً بإحسانه ، وتحدثاً بنعمته : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ } فكان عليه الصلاة [ والسلام ] يفقه ما تقول وتتكلم به ، كما راجع الهدهد وراجعه ، وكما فهم قول النملة للنمل كما يأتي ، وهذا لم يكن لأحد غير سليمان عليه الصلاة والسلام . { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } أي : أعطانا الله من النعم ، ومن أسباب الملك ، ومن السلطنة والقهر ، ما لم يؤتِه أحداً من الآدميين ، ولهذا دعا ربه فقال : { وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ } [ ص : 35 ] فسخر الله له الشياطين ، يعملون له كل ما شاء ، من الأعمال التي يعجز عنها غيرهم ، وسخر له الريح ، غدوها شهر ورواحها شهر . { إِنَّ هَـٰذَا } الذي أعطانا الله وفضلنا واختصنا به { لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ } الواضح الجلي ، فاعترف أكمل اعتراف بنعمة الله تعالى . { وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْس وَٱلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي : جمع له جنوده الكثيرة الهائلة المتنوعة ، من بني آدم ، ومن الجن والشياطين ، ومن الطيور فهم يوزعون ، يدبرون ، ويرد أولهم على آخرهم ، وينظمون غاية التنظيم في سيرهم ونزولهم ، وحلهم وترحالهم قد استعد لذلك ، وأعد له عدته ، وكل هذه الجنود مؤتمرة بأمره ، لا تقدر على عصيانه ، ولا تتمرد عنه ، قال تعالى : { هَـٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ } [ ص : 39 ] أي : أعط بغير حساب ، فسار بهذه الجنود الضخمة في بعض أسفاره . { حَتَّىٰ إِذَآ أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ } منبهة لرفقتها وبني جنسها : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } فنصحت هذه النملة ، وأسمعت النمل ، إما بنفسها ، ويكون الله قد أعطى النمل أسماعاً خارقة للعادة ، لأن التنبيه للنمل ، الذي قد ملأ الوادي بصوت نملة واحدة ، من أعجب العجائب . وإما بأنها أخبرت من حولها من النمل ، ثم سرى الخبر من بعضهن لبعض حتى بلغ الجميع ، وأمرتهن بالحذر ، والطريق في ذلك ، وهو دخول مساكنهن . وعرفت حالة سليمان وجنوده ، وعظمة سلطانه ، واعتذرت عنهم ، أنهم إن حطموكم ، فليس عن قصد منهم ولا شعور ، فسمع سليمان عليه الصلاة والسلام قولها وفهمه . { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا } إعجاباً منه بفصاحتها ونصحها ، وحسن تعبيرها . وهذا حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، الأدب الكامل ، والتعجب في موضعه ، وأن لا يبلغ بهم الضحك إلا إلى التبسم ، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم جُلُّ ضحكه التبسم ، فإن القهقهة تدل على خفة العقل وسوء الأدب . وعدم التبسم والعجب مما يتعجب منه ، يدل على شراسة الخلق والجبروت . والرسل منزهون عن ذلك . وقال شاكراً لله الذي أوصله إلى هذه الحال : { رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ } أي : ألهمني ووفقني { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ } فإن النعمة على الوالدين نعمة على الولد . فسأل ربه التوفيق للقيام بشكر نعمته ، الدينية والدنيوية عليه وعلى والديه ، { وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ } أي : ووفقني أن أعمل صالحاً ترضاه ، لكونه موافقاً لأمرك ، مخلصاً فيه ، سالماً من المفسدات والمنقصات ، { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ } التي منها الجنة { فِي } جملة { عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ } فإن الرحمة مجعولة للصالحين على اختلاف درجاتهم ومنازلهم . فهذا نموذج ذكره الله من حالة سليمان عند سماعه خطاب النملة ونداءها . ثم ذكر نموذجاً آخر من مخاطبته للطير ، فقال : { وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيْرَ } دلّ هذا على كمال عزمه وحزمه ، وحسن تنظيمه لجنوده ، وتدبيره بنفسه للأمور الصغار والكبار ، حتى إنه لم يهمل هذا الأمر ، وهو تفقد الطيور ، والنظر : هل هي موجودة كلها ، أم مفقود منها شيء ؟ وهذا هو المعنى للآية . ولم يصنع شيئاً من قال : إنه تفقد الطير ، لينظر أين الهدهد منها ، ليدله على بعد الماء وقربه ، كما زعموا عن الهدهد ، أنه يبصر الماء تحت الأرض الكثيفة ، فإن هذا القول لا يدل عليه دليل ، بل الدليل العقلي واللفظي دال على بطلانه ، أما العقلي ، فإنه قد عرف بالعادة والتجارب والمشاهدات ، أن هذه الحيوانات كلها ، ليس منها شيء يبصر هذا البصر الخارق للعادة ، ينظر الماء تحت الأرض الكثيفة ، ولو كان كذلك ، لذكره الله ، لأنه من أكبر الآيات . وأما الدليل اللفظي ، فلو أريد هذا المعنى ، لقال : " وطلب الهدهد لينظر له الماء ، فلما فقده قال ما قال " أو " فتش عن الهدهد " أو : " بحث عنه " ونحو ذلك من العبارات ، وإنما تفقد الطير ، لينظر الحاضر منها والغائب ، ولزومها للمراكز والمواضع التي عينها لها . وأيضاً فإن سليمان عليه السلام ، لا يحتاج ولا يضطر إلى الماء ، بحيث يحتاج لهندسة الهدهد ، فإن عنده من الشياطين والعفاريت ما يحفرون له الماء ، ولو بلغ في العمق ما بلغ . وسخر الله له الريح غدوها شهر ورواحها شهر ، فكيف - مع ذلك - يحتاج إلى الهدهد ؟ ! ! وهذه التفاسير التي توجد ، وتشتهر بها أقوال ، لا يعرف غيرها ، تنقل هذه الأقوال عن بني إسرائيل مجردة ، ويغفل الناقل عن مناقضتها للمعاني الصحيحة ، وتطبيقها على الأقوال ، ثم لا تزال تتناقل ، وينقلها المتأخر مسلماً للمتقدم ، حتى يظن أنها الحق ، فيقع من الأقوال الردية في التفاسير ما يقع ، واللبيب الفطن ، يعرف أن هذا القرآن الكريم ، العربي المبين ، الذي خاطب الله به الخلق كلهم ، عالمهم وجاهلهم ، وأمرهم بالتفكر في معانيه ، وتطبيقها على ألفاظه العربية المعروفة المعاني ، التي لا تجهلها العرب العرباء ، وإذا وجد أقوالاً منقولة عن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ردها إلى هذا الأصل ، فإن وافقته قبلها ، لكون اللفظ دالاً عليها ، وإن خالفته لفظاً ومعنى ، أو لفظاً أو معنى ، ردها وجزم ببطلانها ، لأن عنده أصلاً معلوماً مناقضاً لها ، وهو ما يعرفه من معنى الكلام ودلالته . والشاهد ، أن تفقد سليمان عليه السلام للطير ، وفقده الهدهد ، يدلّ على كمال حزمه وتدبيره للملك بنفسه ، وكمال فطنته حتى فقد هذا الطائر الصغير { فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَآئِبِينَ } أي : هل عدم رؤيتي إياه ، لقلة فطنتي به ، لكونه خفياً بين هذه الأمم الكثيرة ؟ أم على بابها ، بأن كان غائباً من غير إذني ولا أمري ؟ . فحينئذ تغيظ عليه وتوعده ، فقال : { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً } دون القتل ، { أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أي : حجة واضحة على تخلفه ، وهذا من كمال ورعه وإنصافه ، أنه لم يقسم على مجرد عقوبته بالعذاب أو القتل ، لأن ذلك لا يكون إلا من ذنب ، وغيبته قد تحتمل أنها لعذر واضح ، فلذلك استثناه ، لورعه وفطنته . { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ } ثم جاء ، وهذا يدل على هيبة جنوده منه ، وشدة ائتمارهم لأمره ، حتى إن هذا الهدهد ، الذي خلفه العذر الواضح ، لم يقدر على التخلف زمناً كثيراً ، { فَقَالَ } لسليمان : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } أي : عندي العلم علم ما أحطت به ، على علمك الواسع ، وعلى درجتك فيه ، { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ } القبيلة المعروفة في اليمن { بِنَبَإٍ يَقِينٍ } أي : خبر متيقن . ثم فسر هذا النبأ فقال : { إِنِّي وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ } أي : تملك قبيلة سبأ ، وهي امرأة ، { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } يؤتاه الملوك ، من الأموال ، والسلاح ، والجنود ، والحصون ، والقلاع ، ونحو ذلك . { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } أي : كرسي ملكها الذي تجلس عليه ، عرش هائل ، وعظم العروش تدل على عظمة المملكة وقوة السلطان وكثرة رجال الشورى . { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } أي : هم مشركون يعبدون الشمس . { وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } فرأوا ما عليه هو الحق ، { فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ } لأن الذي يرى أن الذي عليه حق ، لا مطمع في هدايته حتى تتغير عقيدته . ثم قال : { أَلاَّ } أي : هلا { يَسْجُدُواْ للَّهِ ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي : يعلم الخفي الخبيء ، في أقطار السماوات ، وأنحاء الأرض ، من صغار المخلوقات ، وبذور النباتات ، وخفايا الصدور ، ويخرج خبء الأرض والسماء ، بإنزال المطر ، وإنبات النباتات ، ويخرج خبء الأرض عند النفخ في الصور وإخراج الأموات من الأرض ، ليجازيهم بأعمالهم { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } . { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي : لا تنبغي العبادة ، والإنابة والذل ، والحب ، إلا له ، لأنه المألوه ، لما له من الصفات الكاملة ، والنعم الموجبة لذلك . { رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } الذي هو سقف المخلوقات ، ووسع الأرض والسماوات ، فهذا الملك عظيم السلطان ، كبير الشأن ، هو الذي يذل له ويخضع ويسجد له ويركع ، فسلم الهدهد حين ألقى إليه هذا النبأ العظيم ، وتعجب سليمان كيف خفي عليه . وقال مثبتاً لكمال عقله ورزانته : { قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ * ٱذْهَب بِّكِتَابِي هَـٰذَا } وسيأتي نصه { فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ } أي : استأخر غير بعيد { فَٱنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } إليك وما يتراجعون به . فذهب به فألقاه عليها ، فقالت لقومها : { إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } أي جليل المقدار ، من أكبر ملوك الأرض . ثم بينت مضمونه فقالت { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } أي : لا تكونوا فوقي ، بل اخضعوا تحت سلطاني ، وانقادوا لأوامري ، وأقبلوا إليَّ مسلمين . وهذا في غاية الوجازة مع البيان التام ، فإنه تضمن نهيهم عن العلو عليه ، والبقاء على حالهم التي هم عليها ، والانقياد لأمره ، والدخول تحت طاعته ، ومجيئهم إليه ، ودعوتهم إلى الإسلام ، وفيه استحباب ابتداء الكتب بالبسملة كاملة ، وتقديم الاسم في أول عنوان الكتاب ، فمن حزمها وعقلها ، أن جمعت كبار دولتها ورجال مملكتها ، وقالت : { يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَفْتُونِي فِيۤ أَمْرِي } أي : أخبروني : ماذا نجيبه به ؟ وهل ندخل تحت طاعته وننقاد ؟ أم ماذا نفعل ؟ { مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ } أي : ما كنت مستبدة بأمر دون رأيكم ومشورتكم . { قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي : إن رددتِ عليه قوله ، ولم تدخلي في طاعته ، فإنا أقوياء على القتال ، فكأنهم مالوا إلى هذا الرأي ، الذي لو تم لكان فيه دمارهم ، ولكنهم أيضاً لم يستقروا عليه ، بل قالوا : { وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ } أي : الرأي ما رأيت ، لعلمهم بعقلها وحزمها ، ونصحها لهم { فَٱنظُرِي } نظر فكر وتدبر { مَاذَا تَأْمُرِينَ } . فقالت لهم - مقنعة لهم عن رأيهم ، ومبينة سوء مغبة القتال - { إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا } قتلاً ، وأسراً ، ونهباً لأموالها ، وتخريباً لديارها ، { وَجَعَلُوۤاْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً } أي : جعلوا الرؤساء السادة أشراف الناس من الأذلين ، أي : فهذا رأي : غير سديد ، وأيضاً ، فلست بمطيعة له قبل الاختبار وإرسال من يكشف عن أحواله ويتدبرها ، وحينئذ نكون على بصيرة من أمرنا . فقالت : { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ ٱلْمُرْسَلُونَ } منه . هل يستمر على رأيه وقوله ؟ أم تخدعه الهدية ، وتتبدل فكرته ، وكيف أحواله وجنوده ؟ فأرسلت له هدية مع رسل من عقلاء قومها ، وذوي الرأي : منهم ، { فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ } أي : جاءه الرسل بالهدية { قَالَ } منكراً عليهم ، ومتغيظاً على عدم إجابتهم : { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ ٱللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ } فليست تقع عندي موقعاً ، ولا أفرح بها ، قد أغناني الله عنها ، وأكثر علي النعم ، { بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } لحبكم للدنيا ، وقلة ما بأيديكم بالنسبة لما أعطاني الله . ثم أوصى الرسول من غير كتاب ، لما رأى من عقله ، وأنه سينقل كلامه على وجهه ، فقال : { ٱرْجِعْ إِلَيْهِمْ } أي : بهديتك { فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ } أي : لا طاقة لهم { بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ } فرجع إليهم ، وأبلغهم ما قال سليمان ، وتجهزوا للمسير إلى سليمان ، وعلم سليمان أنهم لا بد أن يسيروا إليه ، فقال لمن حضره من الجن والإنس : { أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } أي : لأجل أن نتصرف فيه قبل أن يسلموا ، فتكون أموالهم محترمة ، { قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن ٱلْجِنِّ } والعفريت : هو القوي النشيط جداً : { أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ } والظاهر أن سليمان إذ ذاك في الشام ، فيكون بينه وبين سبأ نحو مسيرة أربعة أشهر ، شهران ذهاباً ، وشهران إياباً ، ومع ذلك ، يقول هذا العفريت : أنا التزم بالمجيء به ، على كِبره وثقله ، وبُعْده ، قبل أن تقوم من مجلسك الذي أنت فيه . والمعتاد من المجالس الطويلة ، أن تكون معظم الضحى ، نحو ثلث يوم ، هذا نهاية المعتاد ، وقد يكون دون ذلك ، أو أكثر ، وهذا الملك العظيم ، الذي عند آحاد رعيته هذه القوة والقدرة ، وأبلغ من ذلك أن { قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ ٱلْكِتَابِ } : قال المفسرون : هو رجل عالم صالح ، عند سليمان يقال له : " آصف بن برخيا " كان يعرف اسم الله الأعظم ، الذي إذا دُعي به أجاب ، وإذا سأل به أعطى . { أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } بأن يدعو الله بذلك الاسم ، فيحضر حالاً ، وأنه دعا الله فحضر . فالله أعلم [ هل هذا المراد أم أن عنده علماً من الكتاب يقتدر به على جلب البعيد وتحصيل الشديد ] . { فَلَمَّا رَآهُ } سليمان { مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } حمد الله تعالى على إقداره وملكه ، وتيسير الأمور له ، و { قَالَ هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِيۤ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } أي : ليختبرني بذلك . فلم يغتر عليه السلام بملكه وسلطانه وقدرته ، كما هو دأب الملوك الجاهلين ، بل علم أن ذلك اختبار من ربه ، فخاف أن لا يقوم بشكر هذه النعمة ، ثم بيَّن أن هذا الشكر لا ينتفع الله به ، وإنما يرجع نفعه إلى صاحبه ، فقال : { وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } غني عن أعماله ، كريم ، كثير الخير ، يعم به الشاكر والكافر ، إلا أن شكر نعمه داع للمزيد منها ، وكفرها داع لزوالها ، ثم قال لمن عنده : { قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا } أي : غيروه بزيادة ونقص ، ونحو ذلك { نَنظُرْ } مختبرين لعقلها { أَتَهْتَدِيۤ } للصواب ، ويكون عندها ذكاء وفطنة تليق بملكها { أَمْ تَكُونُ مِنَ ٱلَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ } . { فَلَمَّا جَآءَتْ } قادمة على سليمان ، عرض عليها عرشها ، وكان عهدها به ، قد خلفته في بلدها ، و { قِيلَ } لها { أَهَكَذَا عَرْشُكِ } أي : أنه استقر عندنا أن لك عرشاً عظيماً ، فهل هو كهذا العرش الذي أحضرناه لك ؟ { قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ } وهذا من ذكائها وفطنتها ، لم تقل " هو " ، لوجود التغيير فيه ، والتنكير ، ولم تنف أنه هو ، لأنها عرفته ، فأتت بلفظ محتمل للأمرين ، صادق على الحالين ، فقال سليمان متعجباً من هدايتها وعقلها ، وشاكراً لله أن أعطاه أعظم منها : { وَأُوتِينَا ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا } أي : الهداية ، والعقل ، والحزم ، من قبل هذه الملكة ، { وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } وهي الهداية النافعة الأصلية . ويحتمل أن هذا من قول ملكة سبأ : " وأوتينا العلم عن ملك سليمان وسلطانه ، وزيادة اقتداره ، من قبل هذه الحالة التي رأينا فيها قدرته على إحضار العرش من المسافة البعيدة ، فأذعنا له ، وجئنا مسلمين له ، خاضعين لسلطانه " . قال الله تعالى : { وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ ٱللَّهِ } أي : عن الإسلام ، وإلا ، فلها من الذكاء والفطنة ما به تعرف الحق من الباطل ، ولكن العقائد الباطلة تذهب بصيرة القلب { إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ } فاستمرت على دينهم ، وانفراد الواحد عن أهل الدين ، والعادة المستمرة بأمر يراه بعقله من ضلالهم وخطئهم ، من أندر ما يكون ، فلهذا لا يستغرب بقاؤها على الكفر ، ثم إن سليمان أراد أن ترى من سلطانه ما يبهر العقول ، فأمرها أن تدخل الصرح ، وهي المجلس المرتفع المتسع ، وكان مجلساً من قوارير ، تجري تحته الأنهار . فـ { قِيلَ لَهَا ٱدْخُلِي ٱلصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً } ماء ، لأن القوارير شفافة ، يرى الماء الذي تحتها ، كأنه بذاته يجري ، ليس دونه شيء ، { وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا } للخياضة ، وهذا أيضاً من عقلها وأدبها ، فإنها لم تمتنع من الدخول للمحل الذي أمرت بدخوله ، لعلمها أنها لم تستدع إلا للإكرام ، وأن ملك سليمان وتنظيمه ، قد بناه على الحكمة ، ولم يكن في قلبها أدنى شك من حالة السوء ، بعد ما رأت ما رأت . فلما استعدت للخوض قيل لها : { إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ } أي : مملس { مِّن قَوارِيرَ } فلا حاجة منك لكشف الساقين . فحينئذ لما وصلت إلى سليمان ، وشاهدت ما شاهدت ، وعلمت نبوته ورسالته ، تابت ورجعت عن كفرها و { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } . فهذا ما قصه الله علينا من قصة ملكة سبأ وما جرى لها مع سليمان ، وما عدا ذلك من الفروع المولدة ، والقصص الإسرائيلية ، فإنه لا يتعلق بالتفسير لكلام الله ، وهو من الأمور التي يقف الجزم بها ، على الدليل المعلوم عن المعصوم ، والمنقولات في هذا الباب كلها ، أو أكثرها ، ليس كذلك ، فالحزم كل الحزم ، الإعراض عنها ، وعدم إدخالها في التفاسير ، والله أعلم .