Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 16-27)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ قُل } لهم ، لائماً على فرارهم ، ومخبراً أنهم لا يفيدهم ذلك شيئاً { لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ } فلو كنتم في بيوتكم ، لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . والأسباب تنفع ، إذا لم يعارضها القضاء والقدر ، فإذا جاء القضاء والقدر ، تلاشى كل سبب ، وبطلت كل وسيلة ظنها الإنسان تنجيه . { وَإِذاً } حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل ، ولتنعموا في الدنيا فإنكم { لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } متاعاً لا يسوى فراركم ، وترككم أمر اللّه ، وتفويتكم على أنفسكم التمتع الأبدي ، في النعيم السرمدي . ثم بيَّن أن الأسباب كلها لا تغني عن العبد شيئاً إذا أراده اللّه بسوء ، فقال : { قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعْصِمُكُمْ } أي : يمنعكم { مِّنَ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً } أي : شراً ، { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } فإنه هو المعطي المانع ، الضار النافع ، الذي لا يأتي بالخير إلا هو ، ولا يدفع السوء إلاّ هو . { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً } يتولاهم ، فيجلب لهم النفع { وَلاَ نَصِيراً } أي : ينصرهم ، فيدفع عنهم المضار . فَلْيَمْتَثِلُوا طاعة المنفرد بالأمور كلها ، الذي نفذت مشيئته ، ومضى قدره ، ولم ينفع مع ترك ولايته ونصرته ، وَلِيٌّ ولا ناصر . ثم توَّعد تعالى المخذلين المعوقين ، وتهددهم فقال : { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ } عن الخروج لمن [ لم ] يخرجوا { وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ } الذين خرجوا : { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي : ارجعوا ، كما تقدم من قولهم : { يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ } [ الأحزاب : 13 ] . وهم مع تعويقهم وتخذيلهم { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ } القتال والجهاد بأنفسهم { إِلاَّ قَلِيلاً } فهم أشد الناس حرصاً على التخلف ، لعدم الداعي لذلك من الإيمان والصبر ، ووجود المقتضى للجبن ، من النفاق وعدم الإيمان . { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } بأبدانهم عند القتال ، وبأموالهم عند النفقة فيه ، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم . { فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } نظر المغشى عليه { مِنَ ٱلْمَوْتِ } من شدة الجبن ، الذي خلع قلوبهم ، والقلق الذي أذهلهم ، وخوفاً من إجبارهم على ما يكرهون من القتال . { فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ } وصاروا في حال الأمن والطمأنينة ، { سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ } أي : خاطبوكم وتكلموا معكم ، بكلام حديد ، ودعاوى غير صحيحة . وحين تسمعهم ، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام ، { أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ } الذي يراد منهم ، وهذا شر ما في الإنسان ، أن يكون شحيحاً بما أمر به ، شحيحاً بماله أن ينفقه في وجهه ، شحيحاً في بدنه أن يجاهد أعداء اللّه ، أو يدعو إلى سبيل اللّه ، شحيحاً بجاهه ، شحيحاً بعلمه ونصيحته ورأيه . { أوْلَـٰئِكَ } الذين بتلك الحالة { لَمْ يُؤْمِنُواْ } بسبب عدم إيمانهم أحبط الله أعمالهم ، { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } . وأما المؤمنون ، فقد وقاهم اللّه شح أنفسهم ، ووفقهم لبذل ما أمروا به ، من بذلٍ لأبدانهم في القتال في سبيله ، وإعلاء كلمته ، وأموالهم للنفقة في طرق الخير ، وجاههم وعلمهم . { يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ } أي : يظنون أن هؤلاء الأحزاب ، الذين تحزبوا على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه لم يذهبوا حتى يستأصلوهم ، فخاب ظنهم ، وبطل حسبانهم . { وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ } مرة أخرى { يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ } أي : لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة ، ودَّ هؤلاء المنافقون ، أنهم ليسوا في المدينة ولا في القرب منها ، وأنهم مع الأعراب في البادية ، يستخبرون عن أخباركم ، ويسألون عن أنبائكم ، ماذا حصل عليكم ؟ فتباً لهم ، وبعداً فليسوا ممن يبالى بحضورهم { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً } فلا تبالوهم ، ولا تأسوا عليهم . { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة ، وباشر موقف الحرب ، وهو الشريف الكامل ، والبطل الباسل ، فكيف تشحون بأنفسكم عن أمر جاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنفسه فيه ؟ ! ! فَتأَسُّوْا به في هذا الأمر وغيره . واستدل الأصوليون في هذه الآية ، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وأن الأصل ، أن أمته أسوته في الأحكام ، إلاّ ما دلَّ الدليل الشرعي على الاختصاص به . فالأسوة نوعان : أسوة حسنة ، وأسوة سيئة . فالأسوة الحسنة في الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فإن المتأسِّي به ، سالك الطريق الموصل إلى كرامة اللّه ، وهو الصراط المستقيم . وأما الأسوة بغيره إذا خالفه ، فهو الأسوة السيئة ، كقول الكفار حين دعتهم الرسل للتأسِّي [ بهم ] : { بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } . وهذه الأسوة الحسنة ، إنما يسلكها ويوفق لها ، من كان يرجو اللّه واليوم الآخر ، فإن ما معه من الإيمان ، وخوف اللّه ، ورجاء ثوابه ، وخوف عقابه ، يحثه على التأسي بالرسول صلى اللّه عليه وسلم . لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف ، ذكر حال المؤمنين ، فقال : { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ } الذين تحزبوا ، ونزلوا منازلهم ، وانتهى الخوف ، { قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } في قوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] . { وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } فإنا رأينا ، ما أخبرنا به { وَمَا زَادَهُمْ } ذلك الأمر { إِلاَّ إِيمَاناً } في قلوبهم { وَتَسْلِيماً } في جوارحهم ، وانقياداً لأمر اللّه . ولما ذكر أن المنافقين عاهدوا اللّه ، لا يولون الأدبار ، ونقضوا ذلك العهد ، ذكر وفاء المؤمنين به ، فقال : { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } أي : وفوا به ، وأتموه ، وأكملوه ، فبذلوا مهجهم في مرضاته ، وسبَّلوا أنفسهم في طاعته . { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } أي : إرادته ومطلوبه وما عليه من الحق ، فقُتل في سبيل اللّه ، أو مات مؤدياً لحقه لم ينقصه شيئاً . { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } تكميل ما عليه ، فهو شارع في قضاء ما عليه ، ووفاء نحبه ولما يكمله ، وهو في رجاء تكميله ، ساع في ذلك مجد . { وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } كما بدَّل غيرهم ، بل لم يزالوا على العهد ، لا يلوون ولا يتغيرون ، فهؤلاء الرجال على الحقيقة ، ومن عداهم فصورهم صور رجال ، وأما الصفات فقد قصرت عن صفات الرجال . { لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي : بسبب صدقهم ، في أقوالهم وأحوالهم ، ومعاملتهم مع اللّه ، واستواء ظاهرهم وباطنهم ، قال اللّه تعالى : { هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } الآية [ المائدة : 119 ] . أي : قدرنا ما قدرنا من هذه الفتن والمحن والزلازل ، ليتبين الصادق من الكاذب ، فيجزي الصادقين بصدقهم { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ } الذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم عند حلول الفتن ، ولم يفوا بما عاهدوا اللّه عليه . { إِن شَآءَ } تعذيبهم ، بأن لم يشأ هدايتهم ، بل علم أنهم لا خير فيهم فلم يوفقهم . { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } بأن يوفقهم للتوبة والإنابة ، وهذا هو الغالب على كرم الكريم ، ولهذا ختم الآية باسمين دالين على المغفرة ، والفضل والإحسان فقال : { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } غفوراً لذنوب المسرفين على أنفسهم ، ولو أكثروا من العصيان إذا أتوا بالمتاب . { رَّحِيماً } بهم ، حيث وفقهم للتوبة ، ثم قبلها منهم وستر عليهم ما اجترحوه . { وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } أي : ردهم خائبين ، لم يحصل لهم الأمر الذي كانوا حنقين عليه ، مغتاظين قادرين [ عليه ] جازمين ، بأن لهم الدائرة ، قد غرتهم جموعهم ، وأعجبوا بتحزبهم ، وفرحوا بِعَدَدِهمْ وعُدَدِهِمْ . فأرسل اللّه عليهم ريحاً عظيمة ، وهي ريح الصبا ، فزعزعت مراكزهم ، وقوَّضت خيامهم ، وكفأت قدورهم وأزعجتهم ، وضربهم اللّه بالرعب ، فانصرفوا بغيظهم ، وهذا من نصر اللّه لعباده المؤمنين . { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ } بما صنع لهم من الأسباب العادية والقدرية ، { وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } لا يغالبه أحد إلا غُلِبَ ، ولا يستنصره أحد إلا غَلَبَ ، ولا يعجزه أمر أراده ، ولا ينفع أهل القوة والعزة قوتهم وعزتهم ، إن لم يعنهم بقوته وعزته . { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم } أي عاونوهم { مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } أي : اليهود { مِن صَيَاصِيهِمْ } أي : أنزلهم من حصونهم ، نزولا مظفوراً بهم ، مجعولين تحت حكم الإسلام . { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } فلم يقووا على القتال ، بل استسلموا وخضعوا وذلوا . { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ } وهم الرجال المقاتلون { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } مَنْ عداهم من النساء والصبيان . { وَأَوْرَثَكُمْ } أي : غنَّمكم { أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } أي : أرضاً كانت من قبل ، من شرفها وعزتها عند أهلها ، لا تتمكنون من وطئها ، فمكَّنكم اللّه وخذلهم ، وغنمتم أموالهم ، وقتلتموهم وأسرتموهم . { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } لا يعجزه شيء ، ومن قدرته قدَّر لكم ما قدر . وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب ، هم بنو قريظة من اليهود ، في قرية خارج المدينة غير بعيدة ، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم [ حين ] هاجر إلى المدينة وادعهم وهادنهم ، فلم يقاتلهم ولم يقاتلوه ، وهم باقون على دينهم ، لم يغير عليهم شيئاً . فلما رأوا يوم الخندق ، الأحزاب الذين تحزبوا على رسول اللّه وكثرتهم ، وقلة المسلمين ، وظنوا أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين ، وساعد على ذلك ، [ تدجيل ] بعض رؤسائهم عليهم ، فنقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومالؤوا المشركين على قتاله . فلما خذل اللّه المشركين ، تفرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقتالهم ، فحاصرهم في حصنهم ، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي اللّه عنه ، فحكم فيهم ، أن تقتل مقاتلتهم ، وتسبى ذراريهم ، وتغنم أموالهم . فأتم اللّه لرسوله والمؤمنين ، المنة ، وأسبغ عليهم النعمة ، وأَقَرَّ أعينهم بخذلان مَنْ انخذل من أعدائهم ، وقتل مَنْ قتلوا ، وأسر مَنْ أسروا ، ولم يزل لطف اللّه بعباده المؤمنين مستمراً .