Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 46-50)
Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أي { قُلْ } يا أيها الرسول ، لهؤلاء المكذبين المعاندين ، المتصدين لرد الحق وتكذيبه ، والقدح بمن جاء به : { إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } أي : بخصلة واحدة ، أشير عليكم بها ، وأنصح لكم في سلوكها ، وهي طريق نصف ، لست أدعوكم بها إلى اتباع قولي ، ولا إلى ترك قولكم من دون موجب لذلك ، وهي : { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ } أي : تنهضوا بهمة ونشاط ، وقصد لاتباع الصواب ، وإخلاص للّه ، مجتمعين ، ومتباحثين في ذلك ، ومتناظرين ، وفرادى ، كل واحد يخاطب نفسه بذلك . فإذا قمتم للّه مثنى وفرادى ، استعملتم فكركم وأجلتموه ، وتدبرتم أحوال رسولكم ، هل هو مجنون ، فيه صفات المجانين من كلامه ، وهيئته ، وصفته ؟ أم هو نبي صادق ، منذر لكم ما يضركم ، مما أمامكم من العذاب الشديد ؟ فلو قبلوا هذه الموعظة واستعملوها ، لتبين لهم أكثر من غيرهم ، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليس بمجنون ، لأن هيئاته ليست كهيئات المجانين ، في خنقهم ، واختلاجهم ، ونظرهم ، بل هيئته أحسن الهيئات ، وحركاته أجلُّ الحركات ، وهو أكمل الخلق ، أدباً ، وسكينة ، وتواضعاً ، ووقاراً ، لا يكون [ إلا ] لأرزن الرجال عقلاً . ثم [ إذا ] تأملوا كلامه الفصيح ، ولفظه المليح ، وكلماته التي تملأ القلوب أمناً وإيماناً ، وتزكى النفوس ، وتطهر القلوب ، وتبعث على مكارم الأخلاق ، وتحث على محاسن الشيم ، وترهب عن مساوئ الأخلاق ورذائلها ، إذا تكلّم رمقته العيون ، هيبةً وإجلالاً وتعظيماً . فهل هذا يشبه هذيان المجانين ، وعربدتهم ، وكلامهم الذي يشبه أحوالهم ؟ ! ! فكل مَنْ تدبر أحواله ، ومقصده استعلام هل هو رسول اللّه أم لا ؟ سواء تفكر وحده أو مع غيره ، جزم بأنه رسول اللّه حقاً ، ونبيه صدقاً ، خصوصاً المخاطبين ، الذي هو صاحبهم يعرفون أول أمره وآخره . وثَمَّ مانع للنفوس آخر عن اتباع الداعي إلى الحق ، وهو أنه يأخذ أموال مَنْ يستجيب له ، ويأخذ أجرة على دعوته . فبين اللّه تعالى نزاهة رسوله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر ، فقال : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ } أي : على اتباعكم للحق { فَهُوَ لَكُمْ } أي : فأشهدكم أن ذلك الأجر - على التقدير - أنه لكم ، { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي : محيط علمه بما أدعو إليه ، فلو كنت كاذباً ، لأخذني بعقوبته ، وشهيد أيضاً على أعمالكم ، سيحفظها عليكم ، ثم يجازيكم بها . ولما بيَّن البراهين الدالة على صحة الحق وبطلان الباطل ، أخبر تعالى أن هذه سنته وعادته أن { يَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ } على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ، لأنه بيَّن من الحق في هذا الموضع ، ورد به أقوال المكذبين ، ما كان عبرة للمعتبرين ، وآية للمتأملين . فإنك كما ترى ، كيف اضمحلت أقوال المكذبين ، وتبين كذبهم وعنادهم ، وظهر الحق وسطع ، وبطل الباطل وانقمع ، وذلك بسبب بيان { عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } الذي يعلم ما تنطوي عليه القلوب من الوساوس والشبه ، ويعلم ما يقابل ذلك ويدفعه من الحجج . فيعلم بها عباده ، وبيّنها لهم ، ولهذا قال : { قُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ } أي : ظهر وبان ، وصار بمنزلة الشمس ، وظهر سلطانه ، { وَمَا يُبْدِىءُ ٱلْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } أي : اضمحل وبطل أمره ، وذهب سلطانه ، فلا يبدئ ولا يعيد . ولما تبين الحق بما دعا إليه الرسول ، وكان المكذبون له يرمونه بالضلال ، أخبرهم بالحق ووضحه لهم ، وبيَّن لهم عجزهم عن مقاومته ، وأخبرهم أن رميهم له بالضلال ليس بضائر الحق شيئاً ، ولا دافع ما جاء به . وأنه إن ضل - وحاشاه من ذلك ، لكن على سبيل التنزل في المجادلة - فإنما يضل على نفسه ، أي : ضلاله قاصر على نفسه ، غير متعدٍ إلى غيره . { وَإِنِ ٱهْتَدَيْتُ } فليس ذلك من نفسي وحولي وقوتي ، وإنما هدايتي بما { يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } فهو مادة هدايتي ، كما هو مادة هداية غيري . إن ربي { سَمِيعٌ } للأقوال والأصوات كلها { قَرِيبٌ } ممن دعاه وسأله وعبده .