Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 128-135)

Tafsir: Taysīr al-karīm ar-raḥmān fī tafsīr kalām al-mannān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول تعالى : { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } أي : جميع الثقلين ، من الإنس والجن ، مَنْ ضلَّ منهم ، ومَنْ أضلَّ غيره ، فيقول موبخاً للجن الذين أضلوا الإنس ، وزينوا لهم الشر ، وأزوهم إلى المعاصي : { يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ ٱلإِنْسِ } أي : من إضلالهم وصدهم عن سبيل الله ، فكيف أقدمتم على محارمي ، وتجرأتم على معاندة رسلي ؟ وقمتم محاربين لله ، ساعين في صد عباد الله عن سبيله إلى سبيل الجحيم ؟ فاليوم حقت عليكم لعنتي ، ووجبت لكم نقمتي ، وسنزيدكم من العذاب بحسب كفركم ، وإضلالكم لغيركم . وليس لكم عذر به تعتذرون ، ولا ملجأ إليه تلجأون ، ولا شافع يشفع ولا دعاء يسمع ، فلا تسأل حينئذ ، عمّا يحل بهم من النكال والخزي والوبال ، ولهذا لم يذكر الله لهم اعتذاراً ، وأما أولياؤهم من الإنس فأبدوا عذراً غير مقبول ، فقالوا : { رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } أي : تمتع كل من الجِنّي والإنسي بصاحبه ، وانتفع به . فالجِنّي يستمتع بطاعة الإنسي له ، وعبادته وتعظيمه ، واستعاذته به . والإنسي يستمتع بنيل أغراضه ، وبلوغه بسبب خدمة الجِنّي له بعض شهواته ، فإن الإنسي يعبد الجِنّي ، فيخدمه الجِنّي ، ويحصل له منه بعض الحوائج الدنيوية ، أي : حصل منا من الذنوب ما حصل ، ولا يمكن رد ذلك ، { وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيۤ أَجَّلْتَ لَنَا } أي : وقد وصلنا المحل الذي تجازي فيه بالأعمال ، فافعل بنا الآن ما تشاء ، واحكم فينا بما تريد ، فقد انقطعت حجتنا ولم يبق لنا عذر ، والأمر أمرك ، والحكم حكمك . وكأن في هذا الكلام منهم نوع تضرع وترقق ، ولكن في غير أوانه . ولهذا حكم فيهم بحكمه العادل ، الذي لا جور فيه ، فقال : { ٱلنَّارُ مَثْوَٰكُمْ خَٰلِدِينَ فِيهَآ } . ولما كان هذا الحكم من مقتضى حكمته وعلمه ، ختم الآية بقوله : { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ } فكما أن علمه وسع الأشياء كلها وعمّها ، فحكمته الغائية شملت الأشياء وعمتها ووسعتها . { وَكَذٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي : وكما ولَّيْنَا الجن المردة وسلطناهم على إضلال أوليائهم من الإنس وعقدنا بينهم عقد الموالاة والموافقة ، بسبب كسبهم وسعيهم بذلك . كذلك من سنتنا أن نولي كل ظالم ظالماً مثله ، يؤزه إلى الشر ويحثه عليه ، ويزهده في الخير وينفره عنه ، وذلك من عقوبات الله العظيمة الشنيع أثرها ، البليغ خطرها . والذنب ذنب الظالم ، فهو الذي أدخل الضرر على نفسه ، وعلى نفسه جنى { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] ومن ذلك أن العباد إذا كثر ظلمهم وفسادهم ، ومنعهم الحقوق الواجبة ، ولَّى عليهم ظلمة يسومونهم سوء العذاب ، ويأخذون منهم بالظلم والجور أضعاف ما منعوا من حقوق الله ، وحقوق عباده ، على وجه غير مأجورين فيه ولا محتسبين . كما أن العباد إذا صلحوا واستقاموا ، أصلح الله رعاتهم ، وجعلهم أئمة عدل وإنصاف ، لا ولاة ظلم واعتساف ، ثم وبخ الله جميع مَنْ أعرض عن الحق ورده ، من الجِن والإنس ، وبيّن خطأهم فاعترفوا بذلك ، فقال : { يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } الواضحات البينات ، التي فيها تفاصيل الأمر والنهي والخير والشر ، والوعد والوعيد . { وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا } ويعلمونكم أن النجاة فيه ، والفوز إنما هو بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه ، وأن الشقاء والخسران في تضييع ذلك ، فأقروا بذلك واعترفوا ، فـ { قَالُواْ } بلى { شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } بزينتها وزخرفها ، ونعيمها ، فاطمأنوا بها ورضوا ، وألهتهم عن الآخرة ، { وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } فقامت عليهم حجة الله ، وعلم حينئذ كل أحد ، حتى هم بأنفسهم عدل الله فيهم ، فقال لهم : حاكماً عليهم بالعذاب الأليم : { ٱدْخُلُواْ فِيۤ } جملة { أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مِّن ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ } [ الأعراف : 38 ] صنعوا كصنيعكم ، واستمتعوا بخلاقهم كما استمعتم ، وخاضوا بالباطل كما خضتم ، إنهم كانوا خاسرين ، أي : الأولون من هؤلاء والآخرون ، وأي خسران أعظم من خسران جنات النعيم ، وحرمان جوار أكرم الأكرمين ؟ ! ولكنهم وإن اشتركوا في الخسران ، فإنهم يتفاوتون في مقداره تفاوتاً عظيماً . { وَلِكُلٍّ } منهم { دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ } بحسب أعمالهم ، لا يجعل قليل الشر منهم ككثيره ، ولا التابع كالمتبوع ، ولا المرؤوس كالرئيس ، كما أن أهل الثواب والجنة وإن اشتركوا في الربح والفلاح ودخول الجنة ، فإن بينهم من الفرق ما لا يعلمه إلاّ الله ، مع أنهم كلهم قد رضوا بما آتاهم مولاهم ، وقنعوا بما حباهم . فنسأله تعالى أن يجعلنا من أهل الفردوس الأعلى ، التي أعدها الله للمقربين من عباده ، والمصطفين من خلقه ، وأهل الصفوة من أهل وداده . { وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } فيجازي كلاً بحسب علمه ، وبما يعلمه من مقصده ، وإنما أمر الله العباد بالأعمال الصالحة ، ونهاهم عن الأعمال السيئة ، رحمة بهم وقصداً لمصالحهم ، وإلاّ فهو الغني بذاته عن جميع مخلوقاته ، فلا تنفعه طاعة الطائعين ، كما لا تضره معصية العاصين . { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } بالإهلاك { وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } فإذا عرفتم بأنكم لا بد أن تنتقلوا من هذه الدار كما انتقل غيركم ، وترحلون منها وتخلونها لمن بعدكم ، كما رحل عنها من قبلكم وخلوها لكم ، فلِمَ اتخذتموها قراراً ؟ وتوطنتم بها ونسيتم ، أنها دار ممر لا دار مقر . وأن أمامكم داراً ، هي الدار التي جمعت كل نعيم وسلمت من كل آفة ونقص ؟ وهي الدار التي يسعى إليها الأولون والآخرون ، ويرحل نحوها السابقون واللاحقون ، التي إذا وصلوها ، فثَمَّ الخلود الدائم ، والإقامة اللازمة ، والغاية التي لا غاية وراءها ، والمطلوب الذي ينتهي إليه كل مطلوب ، والمرغوب الذي يضمحل دونه كل مرغوب ، هنالك والله ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، ويتنافس فيه المتنافسون ، من لذة الأرواح وكثرة الأفراح ، ونعيم الأبدان والقلوب ، والقرب من علاّم الغيوب ، فلله همة تعلقت بتلك الكرامات ، وإرادة سمت إلى أعلى الدرجات " وما أبخس حظ من رضي بالدون ، وأدنى همة من اختار صفقة المغبون " ولا يستبعد المعرض الغافل ، سرعة الوصول إلى هذه الدار ، فـ { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } لله ، فارين من عقابه ، فإن نواصيكم تحت قبضته ، وأنتم تحت تدبيره وتصرفه . { قُلْ } يا أيها الرسول لقومك إذا دعوتهم إلى الله ، وبيّنت لهم ما لهم وما عليهم من حقوقه ، فامتنعوا من الانقياد لأمره واتبعوا أهواءهم ، واستمروا على شركهم : { يَٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ } أي : على حالتكم التي أنتم عليها ، ورضيتموها لأنفسكم { إِنَّي عَامِلٌ } على أمر الله ، ومتبع لمراضي الله . { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِ } أنا أو أنتم ، وهذا من الإنصاف بموضع عظيم حيث بيَّن الأعمال وعامليها ، وجعل الجزاء مقروناً بنظر البصير ، ضارباً فيه صفحاً عن التصريح الذي يغني عنه التلويح . وقد علم أن العاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة للمتقين ، وأن المؤمنين لهم عقبى الدار ، وأن كل معرض عما جاءت به الرسل عاقبته سوء وشر ، ولهذا قال : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ } فكل ظالم ، وإن تمتع في الدنيا بما تمتع به ، فنهايته [ فيه ] الاضمحلال والتلف " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " .